كأن الثورة تتراجع.. وكأن مناخ ما قبل 14 جانفي يستردّ أنفاسه بصورة تدريجية.. بل كأن الذين كانوا يصولون ويجولون زمن المخلوع، يغزون الساحات والمواقع وأطر العمل السياسي والنقابي وفضاء المجتمع المدني بكامل الأريحية، وكأن الثورة لم تقع، وكأنهم غير معنيين بلوثة ما قبلها، وأوساخ المرحلة السابقة وقذارتها.. فالملاحظ في المشهد السياسي والاجتماعي والإعلامي، أن الذين طوقوا الحريات، وأجهزوا على الإعلام وكبتوا أنفاس الصحفيين والكتاب والمبدعين، طيلة أكثر من عقدين من الزمن، يستعيدون اليوم مواقعهم القديمة، بخطى ثابتة.. فالإعلام اليوم مخترق من هؤلاء، والذي ينظر ويتأمل تلفزيون الوطنية 1 على سبيل المثال لا الحصر يلاحظ ذلك بلا عناء كبير، فكأن هذه القناة ما تزال في العهد السابق، لولا بعض البرامج الحوارية، وهي قليلة ومعدودة، وصحفنا عادت إلى عاداتها القديمة في شكل التناول ومضمونه وإطاره وسياقه السياسي والاجتماعي، والوجوه التي كانت «تطبل» و«تزكّر» للمخلوع، بات لها حضورا واضحا في جرائدنا، وهي لا تفتأ تسجل مواقفها وأفكارها، ولكن هذه المرة ب«عقل ثوري» لا لبس فيه، وبعض هؤلاء وأولئك، دخل العمل السياسي من بوابة أحزاب اليسار والأحزاب التقدمية وحتى «أحزاب الوسط»، حيث يتمترسون استعدادا ل «كعكة» الانتخابات القادمة، بل إن بعض الأحزاب، وفي نوع من «الميكيافيلية» الغريبة، سمحت باستقطاب البعض منهم، لتقوية شوكتها في استحقاق انتخابي تراه صعبا وعسيرا عليها بإمكاناتها الراهنة، ويظهر البعض من هؤلاء في فعاليات سياسية وثقافية وإعلامية، ب «أفكار» و«مواقف» و«مقاربات» و«حلول» لمشكلات المجتمع والسياسيين والحكومة، بكامل الصفاقة والوقاحة، يقدمون أنفسهم على أنهم «وسطيون» و«تقدميون» و«ثوريون»، بل إن بعضهم يقدم نفسه وتجربته الفاسدة (سياسيا بالطبع)، للوساطة بين فرقاء سياسيين يختلفون اليوم على بناء الدولة التونسية التي ساهم هؤلاء في تخريبها صباحا مساءا وكل أحد.. ليس هذا فحسب، بل إن «رجال العمايل» (وليس رجال الأعمال) الذين كانوا أداة المخلوع في نهب ثروات التونسيين وعقاراتهم، وتحويل وجهتها إلى «الطرابلسية» ومن لف لفهم، هم اليوم في واجهة الأحداث، يملكون صحفا، ويمولون إذاعات وبرامج تلفزيونية، ويظهرون هنا وهناك لتبرير «فعايلهم»، وللبروز بمظهر الشرفاء الذين لديهم ما يدلون به ضد الحكومة أو رئيس الجمهورية أو المشهد السياسي، وينفقون الملايين على محامين وقضاة لتبرئة ساحتهم، أو على الأقل تأجيل النظر في قضاياهم التي لم تتسع لها المحاكم برفوفها ومكاتبها.. إننا نرى هؤلاء وغيرهم في كل مكان اليوم، حتى في المظاهرات، بل في هذه أساسا، ونراهم في قوائم التنديد التي كانت تستخدم سابقا للمناشدة، ونراهم.. ونراهم .. ونراهم.. لكننا جميعا لم نتحرك ضد هذه الفيروسات التي «عفنت» الوضع في البلاد لفترة طويلة، وهي اليوم تضع خطاها مجددا لتعفين وضع جديد تماما، رغم كل الملابسات التي يتوفر عليها.. الردة تبدأ من هنا، والعودة إلى ما قبل 14 جانفي بدأت تلوح في سماء المشهد الوطني، فكيف يمكن بناء الجديد في تربة مضرّجة بالزعانف والأعشاب الطفيلية؟ الوضع يستدعي حالة استنفار ضخمة من الجميع، لأن الثورة بدأت تتآكل، و«الأزلام» يستغلون حالة الارتخاء في الحكومة والنخب والأحزاب والإعلام، للاستحواذ على مواقع تبدو اليوم مهيأة «للاحتلال» من جديد.. إنه وضع مرّ لكنه حقيقي.. ومن أراد أن يتجنب المرارة عليه أن يوفر الإطار الملائم لشراب لذيذ المذاق..