أسبقية المغني على الموسيقي متواصلة تطرح الموسيقى الآلية في تونس عددا من الإشكاليات لعل أبرزها أن بلادنا وعلى الرغم من أنها تزخر بالكفاءات العالية فإنه قلما يبرز عازف أو عازفة وقلما يتوفر المناخ المناسب كي يتفرغ العازف للإبداع عزفا وتأليفا. وبما أن الموسيقى الآلية جزء لا يتجزأ من التراث الموسيقي فإنه قد يكون من الضروري أن يطرح الموضوع اليوم للدرس... وأن تقع محاولة الإجابة عن بعض الأسئلة الشائكة على غرار لماذا لا يحظى العازف التونسي مهما بلغت درجة موهبته- بمكانة تضاهي المغنين من حيث الدعم والمكانة الاجتماعية؟ لماذا لا نشهد هذه الأيام مدارس كبرى للعزف على غرار مدرسة رضا القلعي مثلا؟ هل هو ناتج عن عدم متابعة خريجي معاهد الموسيقى ومساندتهم؟ ثم هل يمكن اعتبار الشهائد العلمية مقياسا لإبداع العازف؟.. أسئلة وجّهناها إلى عدد من الموسيقييّن التونسيين وهم من خيرة العازفين (على آلات مختلفة) وهي تهدف لمعرفة الأسباب التي حالت دون تقدم الموسيقى الآلية في تونس. طلبنا كذلك من ضيوفنا اقتراح بعض الحلول من أجل المبدعين الذين جعلوا من العزف مناخا خاصا بهم وأداة للتّعبير عن كينونتهم. في هذا السياق أشار عازف العود المتميز بشير الغربي ل»الصباح» أن العازف التونسي عامة يشكو من غياب هيكل اجتماعي يقوم بتقديمه ويعرف بنشاطاته وانتاجاته الخاصة. ليضيف في حسرة أن «العازف في تونس للأسف لا يلقى نفس الحظ الذي يتمتع به المغني، وهو ما يشكل حسب رأيه- عائقا أمام العازف لأنّ تطور الأداء يقتصر على الدعم المتواصل والمساندة المادية والمعنوية أي ضرورة الاعتراف بالعازف شأنه في ذلك شان أي فنان. في نفس الإطار يقول بشير الغربي «يجب أن تكون هذه العملية مجسدة عبر القطاع الإعلامي لأنه يعتبر اليد الداعمة لكل القطاعات وهو كفيل بأن يجعل من العزف ثقافة يتطور من خلالها خيال المستمع ويهذب الأذواق». إلا أن محدثنا يستدرك من جديد قائلا «نحن العازفون نشعر للأسف أننا ضد التيار بل غالبا ما نشعر بالاغتراب الثقافي والاجتماعي رغم أننا ساهمنا في إحياء العديد من التظاهرات الثقافية».
التأثر بالموسيقات الأجنبي
من جهة أخرى تساءلنا عن مسألة تأثر الكثير من العازفين التونسيين بالموسيقى التركية ومدى انعكاسات ذلك عن هويتنا فكان أن بين لنا بشير الغربي أن التأثر بالموسيقات الأجنبية ظاهرة قديمة موغلة في القدم. كما أن الموسيقى التركية على وجه الخصوص موجودة في صلب الموسيقى التونسية بطبيعتها، إذ أن مقام الاصبعين مثلا أحد أبرز المقامات التونسية يرتكز على مضاعفة الدرجة مرتين لإبرازها وهو ما نجده ضمن مميزات الموسيقى التركية. أمّا في ما يهمّ مسألة الهوية فيساند محدثنا رأي علماء الانتروبولوجيا القائل بأن من يثير مسالة الهوية باستمرار رافضا التفتح على الآخر يعاني العديد من المشاكل النفسية، ذلك أن الانفتاح على الآخر لا يعني تحنيط التراث والمس من هويتنا شرط أن نحسن التفاعل مع الآخر بروح معاصرة. في نفس الإطار بيّن محدثنا أننا -على عكس الأتراك- لا نزال نفتقر إلى تقاليد الإتقان في العزف مستشهدا بواقعة طريفة حصلت أثناء زيارته إلى تركيا عندما أخذ بائع «شورمة» في احدى الشوارع التركية يقسّم في مقام الحجاز ليبهر المستمعين وهو ما يؤكد أن العزف أصبح متجذرا فيهم غيرمقتصر على الشهائد العلمية.الأمر الذي انعكس ايجابيا على أخلاقهم وسلوكهم اليومي.
العازف في تبعيّة للمغني
من جهته بيّن لنا شقيق بشير الغربي محمد الغربي عازف الكمنجة أن العازف التونسي يتعرض الى صعوبات كبيرة على جميع المستويات فأغلب الأساتذة مثلا غير أكفاء من حيث تكوين الناشئة. إذ يقتصر التكوين عدد من العازفين كما أن السوق الموسيقية في تونس على حد قوله ضيقة جدا ما من شأنه أن يوصد الأبواب أمام خريجي معاهد الموسيقى ويضيق عليهم الآفاق. ليضيف محدثنا»ما تقديم الانتاجات الخاصة حاليا إلا نتيجة للمجهودات الإضافية للعازف رغم الإقصاء والإهمال»..ثم أثار محمد الغربي مسألة خطيرة ألا وهي تبعية العازف للمغني والعمل معه اضطرارا لكسب المال لانه ليس له حل آخر باستثناء بعض المهرجانات للعزف الفردي. ليضيف قائلا»مادام الفقيد أحمد القلعي عازف العود الكبير كان من بين عازفي فرقة ما لا لشيء إلا لكسب المال والحال أن الاتراك حينما استمعوا إليه اندهشوا لعبقريته فإن الأمر خطير جدا ويستدعي رسم مناهج جديدة خاصة أن الأمر لم يتغير بعد..» وضع مترد يعود حسب رأي محدثنا- الى غياب الإشهار للموسيقى الآلية باستثناء»عازف الليل» لوليد التليلي في الاذاعة الوطنية، عكس لبنان مثلا التي تستوعب آلاف العازفين رغم أنهم يفتقرون إلى عازفين ماهرين. كما يتساءل محمد الغربي في حيرة» لماذا لا يلقى العازف دعما إلا إذا تحصل على شهائد علمية عالية؟..نحن نعلم جيدا أن تونس تزخر بآلاف المتحصلين على الدكتوراه في اختصاصات موسيقية مختلفة ولكن «ما عندناش ربع بليغ حمدي مثلا» وأنا شخصيا أعرف الكثير من الموهوبين المبدعين على غرار العازف الشاب وليد النموسي الذي لم يتسن له اتمام دراسته لظروف عائلية قاسية وهاهو للأسف أصبح مجهولا في طي النسيان».
الموهبة وحدها لا تكفي
بينت الفنانة أمينة الصرارفي للصباح أن المتخرجين من المعاهد العليا للموسيقى تنقصهم المتابعة في اختصاصهم إذ ترى أنه يجب تأطيرهم على جميع المستويات حتى في سنوات الدراسة المتقدمة كالمجال الطبي.. كي يستطيعوا الاضافة للموسيقى التونسية.. لتضيف قائلة: «جراء هذا الإهمال أصبح طالب الموسيقى يشتغل في حفلات الزفاف(عرابني) أو يتقيد بعقد لمدة وجيزة بمعهد الرشيدية لكسب بعض المال فحسب مما ينعكس سلبا على مستوى العزف والإبداع..لهذا السبب نفتقد اليوم إلى مدارس كبيرة للعزف على غرار مدرسة رضا القلعي وقدور الصرارفي..إضافة الى أن العازف التونسي يجب أن يكون منفتحا على جميع الموسيقات دون أن يركز على نمط موسيقي واحد مع المحافظة على «الروح» التونسية ،ففقيد الاغنية التونسية علي الرياحي مثلا وظف الكثير من المقامات الشرقية في ألحانه دون أن يمس بهويته وأصالته»..
تعوّد المستمع العربي على الأغنية
أنيس القليبي عازف الكمنجة المتميز أكد للصباح أن مستوى العزف في تونس تحسن تحسنا ملحوظا في السنوات الأخيرة. في المقابل أصبح العازف يبحث عن مكانة خاصة في الساحة الفنية نظرا لأن المستمع العربي عامة تعود على الأغنية. كما أنه لا يزال يشكو من نقص الفضاءات الثقافية التي تعتني بالموسيقى الآلية ليجد نفسه إما عازفا وسط مجموعة أو «سوليست» أو قائد فرقة وفي كل الحالات يصبح مقيدا بنسق معين يعيقه على الإبداع وتقديم انتاجات خاصة إذ ليس من السهل حسب أنيس القليبي- أن ينحت العازف طريقا خاصا في ظل هذه الظروف. من جهة أخرى بين محدثنا أن نقص المهرجانات التي تشجع العازفين من شأنه أن «يزيد الطين بلة». ومن بين الحلول التي اقترحها محدثنا أمام هذه العراقيل إنشاء حفل شهري يقام في كل مرة في إحدى المدن التونسية كي تصبح ثقافة العزف متجذرة في التونسيين ويحظى كل عازف مبدع بالمكانة الاجتماعية والثقافية.