- ما علاقة الادارة بالسلطة السياسية، وكيف يمكن توفير الضمانات الكافية لحياديتها؟... سؤال عميق باعتبار أن الادارة أصبحت بعد الثورة في مفترق طرق، فبالأمس كانت أداة طيعة بيد النظام البائد لكن بعد تحرّرها مثل باقي التونسيين أصبحت تبحث عن هوية لها في ظل المناخ السياسي التعدّدي والممارسة الديمقراطية.. ومن المنطقي أن يكون السؤال المذكور محرجا باعتباره يضع الحكومة الحالية أو حكومة «الترويكا» في مأزق تثبيت حيادية الادارة حتى لا تخدم أجندا سياسية معيّنة إذ أن أي اصلاح للادارة ليس تقليص أيام العمل إلى 5 أيام في الأسبوع بل هي مجموعة من الاصلاحات الاستراتيجية كالحيادية والهيكلية والمركزية واللامركزية فالمأزق الأكبر أمام الحكومة الحالية ومكونات المجتمع والمنظمات النقابية هو كيف يمكن توفير الضمانات والدعامة اللازمتين لضمان حياد هذه الادارة بما يمكن من رد الجميل لهذه المنظومة التي كانت في المستوى بعد الثورة حيث لم تتعطل مصالح المواطن ودواليب الدولة اذ رغم الرهن والفساد اللذين أصاباها في النظام البائد حافظت الادارة على أستمراريتها ولم تخذل المواطن. ولا ضير أيضا في أن نعترف بالجميل ونعيد مالقيصر فمن أهم انجازات بورقيبة باني الدولة الحديثة بعد الاستقلال تركيزه لادارة عصرية ورغم الانحرافات التي حدثت ومحاولات توظيفها خاصة في العهد البائد حافظت الادارة على نواتها الصلبة وبالتالي إن كانت هناك اصلاحات مرتقبة اليوم لابد ان تراجع في علاقة بمركزية الادارة والاتجاه نحو المحليات والجهويات لتحسين أنموذج الادارة الحيادية التي لا يمكن توظيفها خاصة أن هناك اليوم حديثا عن محاولات لاغراق الادارة بعناصر تنتمي لأحزاب الأغلبية في الحكومة.. الادارة الحيادية تتنافى تماما مع ما يسمى بخلايا الانصات التي أتى بها المنشور الحكومي عدد 7 باعتبارها شكلا جديدا (حسب جل النقابيين) من الشعب المهنية التي بادر اتحاد الشغل مباشرة بعد الثورة بحلها باعتبار ان هذه الشعب أو الخلايا تضرب الحرية النقابية داخل المؤسسة وأداة لتذويب قوى التوازن والمتابعة.. هذا التضارب بين المنشور وكل ما يتعلق بحيادية الادارة يحيل على عدّة مسائل تحدث اليوم في عديد الوزارات بدءا بوزارة الخارجية التي تعمل على تركيز مثل هذه الخلايا ودخولها في صراع مع النقابة وصولا إلى وزارات النقل والتعليم العالي والعدل التي بدأت في تركيز مثل هذه الخلايا حتى أن بعض الوزارات أصبحت تحاور نفسها عن طريق هذه الخلايا وأخرى (في إطار ما يسمى بحرية الوزير في اختيار مساعديه) وضعت بينها وبين الطرف النقابي «حائط برلين» وأقصت عديد الموظفين المتمرسين أو تخلّت عن خدماتهم لتستنجد بالمقربين من خارج الادارة ودائرة أهل الاختصاص.. ويشاع (وإن بعض الظن إثم) أن الذين وقع الاستنجاد بهم من النهضة خاصّة في بعض الوزارات التي ينتمي وزراؤها لحركة النهضة وهذا أيضا يتنافى مع حيادية الادارة إن صحّ الظن طبعا لأنّ اتباع المنطق القديم في المنظومة الادارية من شأنه أن يقوّض أسس الادارة العصرية بعد أن تتغلل في هياكلها ومسار بها بعض الأحزاب ليصبح توظيفها سهلا ولتتحول الادارة إلى أداة لتنفيذ توجهات الحزب الحاكم وهذا لا نرضاه لادارتنا التي تحررت من أسرها ولا ترضاه لها أيضا مختلف الأطياف السياسية بما فيها التي توجد في السلطة أو في سقيفة السلطة حتى لا ندخل في نفق مظلم لا يمكن الخروج منه إلا بنيران ثورة جديدة ضد كل ارتداد على مبادىء ثورة 14 جانفي التي قامت على الحرية والكرامة وتكافؤ الفرص في بلد لكل التونسيين فيها حظّ و"حديثنا قياس".