دعوات للعنف وحمل السلاح وترويج واضح لأجندات مخالفة للقانون عاش وسط العاصمة أول أمس تعاقبا غريبا لأحداث العنف الفظي والمادي.. وكان كل ما يدور في شارع الحبيب بورقيبة والشوارع المؤدية إليه يدفعك إلى الصراخ بأعلى صوتك: ما هذا؟ هل هذه تونس التي نعرفها منذ عشرات السنين؟ من يحرك «مؤامرة» نقل تونس إلى «أفغانستان جديدة» وحرمانها من رصيد دولة الحداثة ومن قيم التسامح والاعتدال والوسطية؟ ثم لا تملك إلا أن تتساءل: من يقف وراء آلاف «السلفيين الجهاديين» الذين هيمنوا على شارع يرمز إلى سيادة البلاد وانتهكوا حرمة معالمه بدعوى المطالبة ب«تطبيق الشريعة»..؟ من الذي سمح لهم بتنظيم تجمعات هيئت لها منصات خاصة.. تداول على بعضها خطباء بمضخمات الصوت ودعوا إلى العنف واستعمال السلاح وانتهاك القوانين التي تحكم البلاد ثم لعنوا الديمقراطية والانتخابات والمجلس التأسيسي و«العلمانيين» والذين ضموا إليهم وزير الداخلية علي العريض وبعض رفاقه في حكومة «الترويكا»؟ كانت الدراجات النارية تسير في شارع بورقيبة والانهج والشوارع المؤدية إلى وسط العاصمة في اتجاهات مختلفة وعليها «ملتحون» يحملون «رايات» كتبت عليها الشهادتين.. فيما كان زملاء لهم من «المشاة» يسيرون بنفس «المظهر».. بشكل استفزازي حينا.. ومثير حينا آخر.. استبدل «الفرسان» بالدراجين.. وبقي «المشاة» أوفياء لقصص «الحروب القديمة» في بلد يحتاج شبابه وشعبه شغلا ومسكنا وأكلا لائقين وكرامة وليس «تهييجا» لمعارك مع أعداء وهميين في «شعب مسلم»..
مداهمة الفنانين والطلبة؟
شاءت الأقدار أن أكون شاهدا على جانب من الهجمات التي شنها «مجهولون» من بين الملتحين على عشرات من طلبة المسرح والفنانين الذين تجمعوا بعد حصولهم على رخصة لتقديم عروض فنية لائقة على هامش اليوم العالمي للمسرح.. كان الصدام مفتعلا بين شباب وفنانين يرفعون شعار «الشعب يريد المسرح للجميع».. وعشرات من «الملتحين الهائجين» الذين داهموا المجموعة الأولى مكبرين (؟) ومرددين شعارات لا خلاف حولها ولا مبرر لها في تلك اللحظة مثل: «الشعب مسلم ولن يستسلم».. مع اتهام كل الفنانين والطلبة الذين كانوا محتمين بالمسرح البلد ي ومدارجه الخارجية بأنهم «من بين أزلام النظام السابق» (؟).. وبالرغم من نجاح «لجان التنظيم» التابعة لجمعيات السلفيين ببدلاتهم الصفراء في صد المهاجمين بعض الوقت.. فقد كسر بعض المداهمين من بعد «الحاجز البشري» لتلك اللجان.. إلى إن تدخلت قوات الأمن.. وفي وقت لاحق تكرر المشهد المأساوي بمجرد انسحاب قوات الأمن.. فبلغ الأمر ببعض «الملتحين» حد مداهمة الفنانين في مقر المسرح.. ونشرت روايات متناقضة.. على قوات الأمن والسلطات القضائية التحقيق فيها ومحاسبة كل من خالف القانون واعتدى على غيره..
فشل سياسات التعليم والتثقيف
ومن خلال الصدامات والتشنج أمام المسرح البلدي وفي مواقع مختلفة من شارع بورقيبة يتضح أن هؤلاء «الملتحين« لم يجدوا من يقنعهم أن هلال علم تونس يرمز إلى قواعد الإسلام الخمس وأنه امتداد لعلم الخلافة العثمانية على غرار جل رايات الدول العربية والإسلامية.. أي أنه ليس «صنيعة الاستعمار».. لم يجدوا من يفهمهم أن « اليافطة» التي يحملون ليست نقيضا لأعلام تونس والجزائر والمغرب.. حتى يفتعلوا «معارك» وهمية بسببها.. بحجة أن المسلمين الأوائل رفعوا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين بصفة ظرفية رايات قيل أنها تحمل الشهادتين خلال حروبهم.. بعضها بيضاء وبعضها سوداء.. لكن غاب عن «وعاظ» السلفيين ومشايخهم أنه لم يكن لدولة الرسول والخلفاء الراشدين على الأقل علم بالمفهوم العصري للراية الوطنية وللدولة الحديثة.. وهذا مظهر آخر من مظاهر فشل سياسات التعليم والتثقيف والتوعية في بلادنا.. لابد من تداركه فورا.. وإذا كانت حالة الفوضى التي سادت شارع بورقيبة سمحت لبعضهم بتسلق مبان عملاقة فيه والبرج الذي يتوسط ساحة 14 جانفي ورفع راياتهم السوداء عليه.. فان الأخطر كان تبرير بعض «الخطباء» و«المشايخ» لظاهرة تهريب الأسلحة من ميليشيات ليبية وجزائرية وافريقية إلى بلادنا.. تمهيدا لاستخدامها «عند الاقتضاء».. في مهمات «جهادية»؟؟ بل أن احد المحسوبين على «المشايخ الجهاديين» دعا إلى حمل السلاح واعتبره «سنة مؤكدة» ( أي واجبا إلا لمن لم يقدر على ذلك ).. كما وصف بعض خطباء «المنصة« الديمقراطية ب«الكفر والجاهلية».. وتهجموا على المجلس التأسيسي وعلى كل مؤسسات الدولة المنتخبة وغير المنتخبة.. وعلى وزير الداخلية السيد علي العريض وعلى «العلمانية» وكل «العلمانيين« بطرق لا أخلاقية.. لا تميز بين الديمقراطيين والاستئصالين.. بين الليبراليين واليساريين ممن ناضلوا في عهدي بورقيبة وبن علي من اجل الحريات وحقوق الإنسان و«المورطين في القمع والفساد والاستبداد»..
تطبيق القانون؟
هذه الانتهاكات للقانون على مرأى ومسمع من الجميع في الشارع الرئيسي للعاصمة تثير نقاط استفهام حول نجاعة اكتفاء الحكومة بموقع المتفرج.. في وقت تحاول فيها مجموعات من «السلفيين الجهاديين» هرسلة «المجتمع والدولة ومؤسستي الجيش والأمن الوطني ووزير الداخلية علي العريض ووزراء الترويكا (محمد عبو وخليل زاوية والبحيري) الذين كانوا أمس الأول يؤكدون في تجمع شعبي كبير في بن عروس أن «القانون سيطبق بحزم» على الجميع بما في ذلك على «السلفيين» الذين يتورطون في حمل السلاح أو تهريبه والدعوة إليه وتدريب شباب عليه.. وكان السيد عبد الحميد الجلاصي القيادي الثاني في حزب النهضة أعلن عن نفس الموقف مساء السبت (أول أمس الأحد) في حديثه المطول الأول في قناة «حنبعل».. فهل تنتهي مرحلة التردد وتتحرك الحكومة فورا في اتجاه تنظيم حملات توعية للملتحين «المسالمين» وأنصار «السلفية الإيمانية» (أو «العلمية») في نفس الوقت الذي تمضي فيه بحزم في تشريك القضاء وقوات الأمن المختصة في حماية البلاد ومصالحها من «الأجندات المشبوهة» لعصابات تهريب الأسلحة والمخدرات وميليشيات «القاعدة» (؟) وحلفائها ؟ إن البلد يحتاج الآن قدرا أكبرا من الحزم.. لان مستقبل الاعتدال في خطر.. وإذا انتصر التطرف فلن تنجح أي خطة لمكافحة البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي وتنشيط السياحة والاستثمار.. ولعل المضي في المسار الجديد بات أيسر بعد أن حسمت القيادة الموسعة للنهضة أمرها (الهيئة التأسيسية) يوم الأحد وقررت التمسك بالفصل الأول من الدستور ورفض مطالب الدعاة إلى إدراج «الأحكام الشرعية» بمفهومها القديم في الدستور..