- لقد عانى المجتمع التونسي من النظام السابق معاناة يعجز اللسان عن وصفها ، فقد تميزت هذه الفترة بفسادها الأخلاقي والسياسي والمالي وجعلت المجتمع ينقسم إلى أقلية تستغل الأغلبية أي إلى طبقة كادحة وأخرى تتمتع بثراء فاحش، وما زاد الطين بلة أن كل القوانين التي وضعت تخدم في مجملها طبقة الأثرياء وتزيدهم ثراء . و قد تعددت الأسباب لقيام الثورة التونسية ولكن أهمها وأولها هي انعدام المقدرة الشرائية لدى المواطنين، وبالتالي يعد الإصلاح الاقتصادي في تونس مفتاح النجاح السياسي وكل المجالات والمتطلبات الأخرى ليست إلا آليات ومناهج لإرساء منظومة متكاملة وعادلة. لكن ماذا نرى في يومنا هذا وبعد مرور أكثر من سنة على اندلاع الثورة ؟ إنني أحترم كل الأطراف السياسية ، وأعلم أن ميزانية الدولة في أزمة حادة لكن في الإجمال لا نرى إلا ترميما للمنظومة الاقتصادية الماضية ، هذه المنظومة التي زادت الفقير فقرا والثري ثراء. أنا أؤمن بالخطاب المطمئن لكن شرط أن يكون عمليا ، كما أؤمن بعدم وجود عصا سحرية لكن كما يقال في المثل الشعبي من نفقتو باين عشاه» ، لأنه حتى ولو كانت هذه الحكومة مؤقتة فهناك من المجالات ما يتطلب التدخل الفوري ، فالمواطن في معاناة دائمة وهي تتفاقم يوما بعد يوم ونلاحظ في المقابل أن أغلب القوى السياسية والإعلامية تقوم بمعالجة قضايا أخرى تافهة أو تكاد تكون في حين أن الاقتصاد في تدهور مستمر . ومن وجهة نظري كان أجدر بالحكومة أن تفكر في إعادة جدولة الديون البنكية لأرباب العمل وذلك لما شهدته سنة 2011 من ارتباك في أوساط الأعمال ، كما كان من الضروري تطبيق عفو جبائي وذلك بعدم احتساب خطايا التأخير واحتساب 20 بالمائة من أصل الدين وبالتالي إمكانية إنعاش خزينة الدولة في هذه المرحلة الحساسة عوضا عن ديون مدونة في سجلات ، كما كان لا بد من التفكير في عفو في مجال الضمان الاجتماعي . إلى جانب هذه الإجراءات هناك إجراء آخر ضروريا وملحا وسأظل مطالبا به حتى يتحقق وهو إلغاء الأداء على القيمة المضافة تدريجيا ، فهذا المواطن الذي لا يتمكن من الحصول على قوت يومه يتحمل على كاهله عبئا يتراوح بين 10 و 18 بالمائة على معظم حاجياته من لباس ووقود وماء وكهرباء إلخ ..إذ لم تعف إلا بعض الضروريات من هذه الضريبة (إن المواطن يتحمل الأداء على القيمة المضافة حتى أثناء نومه فشركة الستاغ تقوم بالواجب في فوترتها فتبوب هذا الأداء إلى جانب الأداء لصالح الإذاعة والتلفزة) وهذا العبء الذي يتحمله لا تنتفع به ميزانية الدولة إلا بنسبة تتراوح بين 20 و 40 بالمائة والبقية ينتفع بها أصحاب الأعمال عن طريق إنشاء العديد من المؤسسات والتلاعب بهذه الضريبة (Mutation de TVA) ، فكان من الأوليات أن يحظى المواطن بهذا الإجراء والمساهمة بالتالي في الرفع من مقدرته الشرائية . وسأتناول في مرحلة قادمة إن شاء الله تقديم دراسة تبين مدى تأثير هذا الإجراء على الميزانية العامة ، وإذا ما تناولنا المقدرة الشرائية فذلك يرجع لسببين أولهما أنها أوْلى بالدراسة لأنها من أول المكاسب التي يستحقها كل مواطن ، وثانيها أنها تمثل أهم شريان في الحركة الاقتصادية . ولكل من يتابع الخطابات السياسية يمكنه أن يستنتج مدى الأهمية التي يحظى بها التشغيل والتنمية الجهوية ، وكأن هذا الثنائي سيمكن الجميع من العيش الكريم ، كما أن تحقيق هذا الإنجاز، من وجهة نظرهم ، يكون عن طريق الإستثمار من قبل الخواص من الداخل والخارج ، وكأن المواطن الذي سيشتغل سيتمكن من العيش الكريم في حين أن الأجر الأدنى لا يغني و لا يسمن من جوع , فالمستثمر من الداخل يحظى بامتيازات شتى في إطار الاستثمار في المناطق التي تتطلب تنمية جهوية ، والمستثمر الأجنبي يحظى بامتيازات أعمق وأهم في إطار التشجيع على الاستثمار في كل تراب الجمهورية ، ولكن في الواقع هذا التمشي من شأنه أن يمكن المواطن العادي من الفتات ويزيد المستثمر ثراء ، فقد كان من الواجب التفكير في البسطاء وذلك بتناول الاستثمار من جهة أوسع في إطار تحقيق نوعا من العدالة الاجتماعية وذلك بأن يكون للعامل في هذه المشاريع امتياز خاص به ، كأن يقع تحديد أجر أدنى لهذه الفئة لا يقل عن 600 دينار . وهنا لا بد أن نشير في هذا السياق أن دور الدولة هام جدا فهي مطالبة بالاستثمار شأنها شأن الخواص فلا يمكن أن تتحقق عدالة في إطار رأسمالية مطلقة بل في إطار منظومة اجتماعية رأسمالية . ما تناولته في مقالي هذا ليس إلا تعقيبا على بعض الخور الذي يتناوله العديد من الأطراف والذي يراه الكثير طريقا للنجاح الاجتماعي والسياسي وهو في الحقيقة تمش سيزيد الأمور تعقيدا ، وفي هذا السياق لدي الكثير من التعقيبات . فمن انتخبهم الشعب ومن يرون في أنفسهم بديلا ، يدافعون عن الدولة وينسون أو ليست لهم الجرأة للخوض في هموم المواطن ، فمن هذا الذي يعطي لنفسه الحق في تطبيق خيارات سياسية يتحمل المواطن نجاحها أو فشلها ؟ لماذا لا تكون هذه الخيارات نابعة من الواقع ومن المواطن أي ما يحقق له عيشا كريما ؟ لماذا يتعامل السياسيون مع الأوضاع بسياسات مشروطة وخطوط حمراء ؟ * أستاذ في التصرف والمحاسبة