- السلاح الليبي تحول إلى مرتكز جيوسياسي من منطقة الساحل والصحراء إلى قلب إفريقيا الاستوائية - تمر ليبيا منذ سقوط العقيد وآخر قلاعه بفترة انتقالية صعبة وبمخاض سياسي مخضب بالدماء، حيث أن المشهد في ليبيا الجديدة ينقسم إلى مشاهد سياسية واجتماعية وحتى جيوسياسية سيئة للمتابع لهذا الشأن. فسياسيا تتسم المرحلة الحالية بعدم قدرة الحكومة الإنتقالية على بسط نفوذها على كامل رقعة التراب الليبي، حيث تبدو السلط المحلية التي أتت بها الثورة من مجالس عسكرية وسياسية في المدن الليبية للوهلة الأولى هي التي تمسك بزمام الأمور أكثر من السلطة المركزية، ومنها بدأت حتى محاولات لمناكفة سلطة طرابلس، التي تسعى جاهدة لاتمام عملية انتقال يؤمل أن تكون ديمقراطية، برز ت بجلاء في مطالب مجلس برقة بفيدرالية في الشرق الليبي. ورغم كل جهود حكومة عبد الحكيم الكيب لضمان ميزانية تسمح بتغطية نفقات المرحلة الحالية (بلغت 55 مليار دولار) إلا أن الوضع الإجتماعي المشحون في ليبيا قد يفشل تلك الجهود السياسية التي تقف في مواجهة عدة تراكمات ثقافية سلبية أذكاها "العقيد" طوال 42 سنة من الحكم الانفرادي الاستبدادي، حيث زاد نعرات القبلية ولم يسع لإذابة جليد تلك العقلية العشائرية في بوتقة حضارية في إطار المدن، بل عمل بدلا من ذلك على توزيع معقد للقبائل في المدن لضمان سيطرة محكمة على المشهد الإجتماعي الليبي، من خلال اللعب على حبال تقريب قبائل على قبائل أخرى، وتنمية مناطق على حساب أخرى مما خلق كتلتين جيوسياستين شرقية وغربية متناقضتين وحتى مختلفتين ثقافيا، تفصل بينهما صحراء وساحل يمتد على أكثر من 1700 كلم، وعدم توازن ديمغرافي وتنموي بين الشرق والغرب. ولعل هذه التراكمات الإجتماعية السلبية التي عانت منها ليبيا منذ أواخر الستينات، إضافة إلى عدم تركيز العقيد القذافي على تحفيز وتعليم الشعب الليبي وشبابه قد ساهمت إلى حد بعيد في إذكاء تلك العقلية التي لا يكون فيها الولاء لراية الوطن، بل القبيلة والعشيرة والأقلية، وهو ما يبرز بوضوح اليوم في الاشتباكات الدامية التي تشهدها ليبيا في هذه الفترة الصعبة من تاريخها. فالظرف السياسي الراهن أخذ يفرض تحديات جمة على كافة الأصعدة وخاصة على صعيدين أساسيين وهما الأمني، والإجتماعي- السياسي.. وهذا الأخير، يتميز بحساسية مفرطة، خاصة إذا ما تحدثنا عما تطرحه فكرة الديمقراطية من احترام لحقوق الأقليات وحقها في إثبات هويتها وخصوصياتها في إطار الدستور الجديد، وذلك بالنظر إلى أن هذه الأقليات لم يسمح لها بإثبات الذات في عهد "نيرون ليبيا" العقيد المهووس الذي كان يفرض نمطا ثقافيا واجتماعيا واحدا علله في بداية الثورة بالقومية العربية ثم باسلاميتها فبإفريقيتها، ما ساهم في حالة من عدم فهم الذات وسبب ذاك الإحتقان الذي وصل إلى حد الإشتباك بين ميلشيات زوارة (الأمازيغية) ومنطقتي أجميل ورقدالين غربي ليبيا وتحديدا في جبل نفوسة، وأيضا بين القبائل العربية والتبو في منطقة سبها جنوبي البلاد. أما أمنيا فإن ضعف السلطة المركزية في فرض سيطرتها السياسية المطلقة وإيجاد حلول مجدية لتجفيف منابع التسليح والعمل على صهر الميليشيات المسلحة للثوار الليبيين في إطار القوات المسلحة أو قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية يبقى هو المعضلة التي تعوق تحقيق الانفراج المطلوب وإنهاء حالة الانفلات وهي معضلة سببها الرئيس هي أيضا تلك العقلية القبلية التي يبدو أنها تحولت إلى صخرة صماء أمام طموحات المسؤولين السياسيين الجدد في ليبيا، والذين يبدو أنهم يدركون ذلك جيدا. في إحدى المناقشات مع أحد أعضاء الغرفة الأمنية بطرابلس، يشير أحد كبار المسؤولين الأمنيين أن هناك خوفا من تنامي ظاهرة انتشار السلاح، التي تمثل «العمود الفقري للمشكلات الأمنية في ليبيا» حسب ما عبر عنه ل»الصباح»، ويضيف أن الرعب الأكبر هو أن يتحول الصراع بين «أمراء حرب». ولعل هذا السيناريو الذي يرسمه المسؤول السامي الليبي يلوح في أكبر تجلياته في أن انتشار الأسلحة بدأ يقفز إلى مستوى الجريمة المنظمة وشبكات المافيا العالمية، وكذلك لعبة الاستخبارات العالمية التي يبدو أنها تمارس الآن حربا سرية في ليبيا، حرب في الظلام حول خيرات هذا البلد الصحراوي في مجمله والعائم على بحر من «الذهب الأسود» والغاز السحري»، بدأت تتحول إلى حرب كسر عظام، كما أبرزته المطالبة بفيدرالية برقة في الشرق الليبي وهو المطلب الذي يعتبر سياسيا غريبا خاصة أنه أتى في توقيت انتقالي دقيق وحساس جدا سياسيا، وفي وقت تسعى فيه الإدارة الإنتقالية في طرابلس لضمان الذهاب إلى انتخابات تأسيسية، وبسط نفوذها على مختلف الربوع الليبية. حتى أن مشكل السلاح انتقل سريعا، ليكون محورا جيوسياسيا جديدا للمنطقة فرض على بلدان المغرب العربي ودول الساحل والصحراء تحديات جديدة، خاصة من حيث انتشار الإرهاب واستعماله من الجماعات المتطرفة في الوصول إلى تحالفات سياسية تجلت في ذلك التحالف الذي برز بينها وبين المقاتلين الطوارق في شمال مالي، وبالإنتقال إلى فرض تحد أمني جديد في دول الساحل الغربي الإستوائي لإفريقيا تجلى خاصة في التحالف بين تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي» وجماعة «بوكوحرام» في نيجيريا ، التي يبدو أن تحالفها مع هذا التنظيم أتى على أساس قدرة هذا الأخير على تهريب الأسلحة من «مخازن العقيد» وامكانية التدريب التي توفرها الأراضي الليبية في وقت مازال الجهاز الأمني الليبي لم يكتمل بعد، خاصة إذا ما أدركنا أن الطوارق يعرفون جيدا طرق الصحراء الكبرى وطرق القوافل القديمة الرابطة بين السواحل الشمالية لإفريقيا والسواحل الغربية للقارة السوداء. ولعل المطلوب من السلطة الإنتقالية في طرابلس عليها في هذا التوقيت الحساس العمل بأكثر نجاعة وجدية على نزع فتيل السلاح ومحاولة تنفيذ خطة أو مشروع يسمح بجمع الأسلحة، خاصة أن عدة حلول ممكنة أبرزها ما طرحه المجلس المحلي بمصراتة بخصوص ضرورة مقايضة السلاح بمشاريع تنموية، أو في إطار الجيش الليبي الجديد. إن ليبيا الجديدة تنتظرها كثير من التحديات السياسية والاجتماعية والتي لا بد للحكومات القادمة وخاصة المجلس الإنتقالي الإلتزام بها في اللحظة الراهنة، لعل أهمها محاربة التطرف، والعمل على اذكاء روح التحضر والتمدن على الليبيين وهما مهمتان تكتسيان أولوية قصوى، ومحاولة الذهاب سياسيا نحو حوار وطني شامل يجمع كافة مكونات المجتمع الليبي للوصول إلى تصورات شاملة حول ليبيا الغد وهو ما يلزمه الكثير من الوقت. نزار مقني