حملت نهاية هذا الأسبوع جملة من الأحداث قد تؤشر على دوامة ومنزلقات خطيرة من العنف السياسي. ولعل الأخطر في المسألة أن البلاد وكأنها على أبواب مرحلة ميزتها الرئيسية الفعل ورد الفعل والعنف والعنف المضاد. بداية الأحداث الساخنة جاءت من عاصمة الجنوب صفاقس وذلك يوم الأحد عندما منع الحزب الوطني التونسي بالقوة من الاجتماع في سياق رد الفعل على اجتماع المنستير الذي أعلن فيه عن ميلاد جديد للتجمعيين تحت غطاء الدساترة والبورقيبيين. والمشهد الثاني من مسلسل رد الفعل تجسم في شارع الحبيب بورقيبة عندما تصدت أجهزة الداخلية لتظاهرة 9 أفريل باستعمال قمع وعنفه لا تفسير واضح لهما سوى انها قد تكون رد فعل من الفريق الحاكم على تحدى قرارات الحكومة ورغبة في دحض ما يتناقله البعض عن ضعفها وقرب سقوطها. أما المشهد الثالث من دوامة العنف والعنف المضاد فتمثلت في تعرض مقرات النهضة في كل من المنستير والرديف إلى محاولات حرق وتسجيل تحركات احتجاجية في بعض المناطق على غرار سيدي بوزيد ، وهي تطورات خطيرة لا يمكن أن تكون إلا ردة فعل على أحداث شارع الحبيب بورقيبة. يطرح هذا التطور السريع للأحداث وتنامي واختلاف مظاهر العنف تهديدا حقيقيا للحمة المجتمع من جهة ولهامش الحريات من جهة أخرى كما يطرح تساؤلا محوريا مفاده إلى أين تسير الأمور؟
مواقف غير مدروسة
يقول الدكتور سالم لبيض مختص علم الاجتماع السياسي إن التجاذبات الجديدة هي نتيجة مواقف وحسابات غير مدروسة بالقدر الكافي خاصة فيما يتعلق بمنع المواطنين من التجمهر والتظاهر في شارع الحبيب بورقيبة. وهو قرار متسرع لا يأخذ بعين الاعتبار المكاسب التي تحققت في مجال الحريات وحق التظاهر كوسيلة للتعبير عن الرأي والموقف وإن كان مختلفا. و الانعكاسات التي نتجت بعد منع المتظاهرين تعد وخيمة على حد تعبير سالم لبيض فهي لا تؤشر فقط على الحد من الحريات في فضاء عام مشترك بين مختلف القوى والأطراف من المفترض أن يكون منظما بعقد اجتماعي ومدني وإن لم يكن مكتوبا. بل أشارت أيضا على تداعيات خطيرة قد خرجت من شارع الحبيب بورقيبة وتوسعت إلى شوارع أخرى من العاصمة ثم امتدت إلى مدن أخرى في شكل مظاهرات وفي شكل أعمال عنف نتج عنها الاعتداء على مقرات أحزاب سياسية. ويعتبر سالم لبيض أن الخطورة متأتية كذلك من العودة إلى ثنائية الاستقطاب والاستقطاب المضاد وهو استقطاب يدخل هذه المرة بعناوين جديدة ويتخفى من ناحية تحت راية زجرية الدولة وتطبيق القانون ومن ناحية أخرى تحت راية الحرية وحق التظاهر. لكن عندما تتحول شرعية الدولة إلى عنف ضد مواطنيها وعندما يتحول حق التظاهر إلى عنف يؤدي إلى الحرق والاعتداء فإن المشهد السياسي سيكون ملتبسا وغائما وقد يؤدي إلى اجهاض العملية الديمقراطية إذا ما انخرم الأمن كليا وإذا ما عجزت الدولة عن حماية مؤسساتها.
أخطاء سياسية
ومن هذا المنطلق يشير محدثنا إلى أنه لا بد من العودة إلى المجلس التأسيسي بوصفه السلطة العليا المنتخبة لاستصدار قرار ينسخ أو يلغي قرار وزير الداخلية بمنع التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة عسى أن يقع امتصاص الأسباب التي أدت إلى العنف الذي بدأ يستشري دون أن يقلل ذلك من القيمة السيادية لوزارة الداخلية. ويقول سالم لبيض أنه في غياب هذا التوجه فإن القوى القديمة ستجد نفسها بيافطات جديدة .وستجد نفسها متحالفة مع راديكالية كانت بالأمس القريب في صفوف المعارضة الشرسة ضد بن علي وهذا تماما ما يبحث عنه الحرس القديم للعودة للسلطة من جديد، وسيجد مدخلا له من خلال الأخطاء التي ترتكبها الحكومة من حين لآخر. وفيما يتعلق بموضوع العنف والعنف المضاد وعلاقته بالصراع السياسي الذي بدأ ينحصر بين طرفين هما الترويكا بزعامة النهضة وما يسمى بمبادرة الباجي قائد السبسي، يشير سالم لبيض أنه إلى حد ما توجد محاولة لحصر الصر اع في قطبين رئيسيين قطب يعود بوسائل جديدة وتحالفات جديدة وقطب الترويكا الذي تحتل فيه النهضة المكانة الرئيسية ويوفر لغريمه الفرصة بسبب أخطائه السياسية التي قد تكون مقصودة أو غير مقصودة لكن يبقى المتضرر الوحيد هو الشعب الذي راهن على العملية الديمقراطية وعلى الصندوق لإعطاء الشرعية لقوى تمثله غير أن المشكل الكبير اليوم هو أن شرعية الصندوق نفسها بدأت حسب البعض توضع في الميزان وهذه قمة الخطورة.
الدولة مسؤولة على العنف
من جهتها أشارت الإعلامية نزيهة رجيبة أم زياد إلى رفض كل أنواع ردود الفعل العنيفة بما فيها حرق مقرات الأحزاب مهما كانت الدوافع لأن مثل هذه الأحداث غير مثمرة وتؤدي إلى تناحر المجتمع وإضاعة خطوط الحوار بين فرقاء السياسة. في المقابل تعتبر محدثتنا أن ما جد في شارع الحبيب بورقيبة ومهما كانت الذرائع القانونية المقدمة، فهو لا يعفي الدولة من مسؤولية العنف المسجل لأن الأجهزة التي مارست العنف تعمل تحت إمرتها. وأعربت نزيهة رجيبة عن قلقها مما أكدته عديد الأطراف حول وجود ميلشيات وعناصر مشبوهة شاركت إلى جانب قوات الأمن في قمع المتظاهرين لا أريد أن أنسبها إلى جهة معينة رغم أن كثيرين يرجعونها إلى النهضة ،لكنني أعتبرها مؤشرا خطيرا وتضيف أم زياد أن رد الفعل ينم دائما عن عدم ثقة في النفس واستخدام القوة لا ينم عن قوة بل عن الشعور بالضعف. واعتبرت أن التلميحات الصادرة عن بعض المسؤولين في تبرير العنف المسجل في شارع الحبيب بورقيبة حملت إشارات سيئة مفادها أن المتظاهرين تعرضوا للعنف حتى لا تسقط الحكومة واستبعدت أن يكون هدف المتظاهرين هو اسقاط الحكومة لأنها مظاهرات سياسية بامتياز تسعى لتثبيت حقوق وملكية الفضاء العام. وتعلق أم زياد على ما يسجل من فعل ورد فعل قائلة إن الأمر وكأنه يعيدنا إلى المعركة الإيديولوجية العقيمة في الجامعة في السبعينات. كما تبدو أن الطبقة السياسية اليوم لم تنضج بما فيه الكفاية حتى عندما أصبحت في السلطة.
غياب الخطاب الجامع
في المقابل يعتبر قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري أن ما يحدث لم يصل بعد إلى المراحل التي يكون فيها فعل ورد فعل.. لكن توجد مؤشرات واضحة على أن تونس تحث الخطى للأسف الشديد نحو هذه المرحلة. وسبب ذلك هو الاستقطاب الثنائي الذي لم يسيطر فقط على المشهد السياسي بل امتد إلى المشهد العام. ويضيف قيس سعيد أن ردود الفعل هذه تدل على أن الوضع مقبل للأسف على مزيد من التعقيد في ظل غياب خطاب وطني جامع فكل طرف يسعى في هذه المرحلة إلى الإعداد إلى الانتخابات المقبلة. وتم اختزال مصلحة الشعب في المقاعد التي يمكن أن يتحصل عليها كل طرف. وبين محدثنا أن أكبر خطر يتهدد المجتمع يتمثل في أن كل طرف بدون استثناء يريد بسط وصايته على الطرف الآخر في حين أن الحرية تتعارض مع فكرة الوصاية التي تعد الطريق نحو الاستبداد.