لست أدري بدقة ما هو الشعور الذي خامرني وأنا أفرغ من قراءة «عمارة يعقوبيان»، هل هو شعور غامض بالحزن لاني فعلا قد فرغت من قراءتها، هل هو شعور باللذة، لذة القراءة ومتعة المطالعة، أم هو شعور بالتقدير لهذا الأديب الروائي الذي استطاع ان يأسرني في مناخ روايته ويجعلني اتابع بشغف غير محدود احداثها وشخصياتها. انها على أية حال متعة القراءة وهي تجنّح في آفاق الخيال الروائي الرحيب، او هي تغوص في قاع الطبقات والافراد والمدن باحثة عن المعني الذي يخفيه/يكشفه السرد ويدعونا الكاتب الى التفكير فيه والنظر الى سره.. ولكن كيف يُتاح لرواية ان تكون آسرة وفاتنة على هذا النحو؟ الواقع ان هناك شروطا جمالية وفنية وفكرية ينبغي توفرها حتى تكون في دائرة «باست سيلر» وليس بالضرورة ان نكون نموذجا مكتملا من حيث الصياغة الفنية كأنّ لا يعتري نظامها السردي الخلل والنقصان، فهناك من أدخل رواية «عمارة يعقوبيان» الى مختبره التقني والسردي، وكشف لنا عيوبها وخللها، ومع ذلك ظلت هذه الرواية متربّعة على عرش الروايات العربية الأكثر مبيعا وبزّت جميع روايات نجيب محفوظ التي قلّما ادركت احداها الطبعة الثامنة والتاسعة. الابهار اذن لا بد ان يكون في الأمر سرا كامنا في صميم بنية الرواية نفسها. فلا نعتقد أن للاعلام وللتسويق «Marketing» التأثير الاقوى في الترويج لهذه الرواية او الدعوة الى اقتنائها، اننا نرى ان النسبة العالية من مقروئيها متولدة من اللذة الذهنية والوجدانية التي تترافق مع عملية القراءة وهي التي تكون في النهاية افضل مستشهر لها في اوساط القراء المثقفين وغير المثقفين على حد سواء. والواقع ان «الباست سيلر» في الأدب الروائي العربي تقليد يكاد ان يكون جديدا ومستحدثا فهناك روايات تعددت طبعاتها واقبل عليها القراء مثل «موسم الهجرة الى الشمال» او مثل «الأيام» ومع ذلك لم تعتبر في دائرة «الأكثر مبيعا» لاسباب غير معلومة بدقة، ربما لان اصدارها لم يترافق مع حركية في التسويق ولم يحدث بشأنها اجماع على فرادتها ولذة مقروئيتها الا من قبل المختصين اما في الغرب فنحن نرى انه في كل موسم ثقافي تتزاحم الروايات الادبية على الظفر بهذه المنزلة المتميزة، ولنا في رواية Davinci code ابرز مثال على ما يمكن ان يقدمه اللوبي الثقافي عبر وسائل النشر والاعلام.. من دعم وتأييد حتى تنشأ اسطورة ادبية تتعزز مكانتها ضمن آليات السوق الاستهلاكية التي في عملية الدعاية والاشهار لا تفرّق ما بين رواية ادبية وما بين شطائر البيتزا الماكدونالد. ولكن الملاحظ ان ايا من «الباست سيلر» في الادب الغربي لم يظفر بأية جائزة معتبرة مثل جائزة الغنكور Goncourt في فرنسا او البوكرPocker في انقلترا، ولم تشفع لصاحبها ان يكون في دائرة المرشحين لجائزة نوبل للاداب ما يعني ان الباست سيلر لا ينهض بالضرورة على الشروط الفنية والابداعية للعمل الروائي وانما على الاستهلاك الكاسح للكتاب من دون أية خلفية او موقف نقدي. والواقع ان ظاهرة الباست سيلر نشأت من خلال التقاليد الراسخة والعريقة في القراءة وفي التعامل مع الكتاب استهلاكا وترويجا فهي ظاهرة ثقافية وحضارية في الآن نفسه وهي مؤشر لمنزلة الكتاب عند الامم، رغم انه مؤشر سيء ولكنه مع ذلك يمنح عملية القراءة مكانتها في متخيل الشعوب، وانها اي القراءة لم تهتز او تتضاءل بدعوى اكتساح الوسائل السمعية والبصرية المشهد الثقافي، او غير ذلك من التعلات الجاهزة. وتشير آخر الاحصائيات ان «عمارة يعقوبيان» قد طبعت في مصر اكثر من 300 الف نسخة ضمن 9 طبعات متتالية وفي حيز زمني لا يتجاوز السنتين اضافة الى 100 ألف نسخة في فرنسا حيث وقع الاحتفاء بها من قبل دار من اشهر دور النشر في فرنسا. ان هذه المعطيات تدعونا الى ان نقترب اكثر من الاسباب التي بوّأت هذه الرواية تلك المنزلة الاستثنائية في الرواية العربية. ان الارتسام الذي ينطبع في ذاكرتنا اننا لسنا نقرأ فحسب رواية شيقة وانما في الآن نفسه.. نشاهد فيلما سينمائيا، فالكاتب قد زاوج بصورة خلاقة ما بين السرد القصصي وما بين لغة السينما التي تعتمد على الصورة وعلى الابهار في الاخراج والتصوير وتحريك متناسق لمختلف العناصر البشرية والفنية المرئية وغير المرئية، وفي ظل هذه المزاوجة عمد الى استراتيجية التركيز على الشخصية، فهي مدار السرد القصيي، وهي ايضا النقطة التي ترتكز عليها آلة الكاميرا، فشخصية مثل زكي الدسوقي، ومثل بثينة السيد، وحاتم رشيد في بؤرة السرد وهي التي تشغّل الكاميرا في اتجاه الاحاطة بها، وبعلاقتها بالمكان «عمارة يعقوبيان» وبالكشف عن تطوراتها وعن مصائرها المحكومة بنزواتها وبرؤيتها للعالم. أكثر من شخصيات ورقية في هذه الشخصيات يكمن سر النجاح الاستثنائي لهذه الرواية، فالكاتب قد صنع لكل منها افقا تتحرك فيه، فشخصية زكي بك الدسوقي تمثل بقايا الطبقة الارستقراطية التي لم يبق من امجادها القديمة سوى ذكريات شائهة، فيما كانت نزواته وعلاقته بالمرأة تعبر عن نموذج لرجل دُونْ جواني اراد ان يسترد شيئا من زمنه الغابر. اما شخصية طه الشاذلي فهو نموذج الفتى الذي دفعه الاحباط النفسي والظلم الاجتماعي الى احضان الجماعات المتطرفة والاصولية. اما شخصية الحاج عزّام فهو نموذج رجل الاعمال الذي يصل الى اعلى المناصب السياسية والى قبّة البرلمان بالرشوة، وبممارسة الفساد المالي والاخلاقي فيما كانت بثينة السيد مثالا للفتاة الحالمة بالثراء والمال مهما كان الثمن. هذه الشخصيات وغيرها ليست شخصيات ورقية فحسب، بل ان الكاتب اللامع علاء الاسواني جعلها مقدودة من أحاسيس وانفعالات وصراعات حتى لكأنّ القارئ يتمثل حضورها الفيزيقي امامه، بكل عنفوانه وقوته، وبدون أية محسّنات بديعية بل بطريقة السينما الواقعي التي تسعى الى تقديم الواقع والاستياء والافكار كما هي حتى وان كانت صادمة لوعينا او غير مكترثة لحساسيتنا. فنحن نقرأ كيف ان زكي الدسوقي يهيّء طقوس الجماع مع النساء، او كيف وقع في المقلب الذي خططت له المومس رباب فتخدّره وتسلب ماله كما اننا نقرأ ايضا كيف ارتدى طه الشاذلي الحزام الناسف ونقرأ ايضا كيف يرتشي الحاج عزّام، نقرأ كل ذلك وبُعد الصورة ماثل امامنا وبقوة، بحيث تكاد تتحول الكلمة الى صورة، واللغة السردية الى مشهد بصري احضر فيه الكاتب كل فنون الابهار في الاخراج السينمائي. وفي اثناء عملية السرد سواء المتصلة بالشخصيات، او بالمكان ذاته، عمارة يعقوبيان يلجأ الكاتب الى تقنية سينمائية تخلق لدى القارئ احساسا بنفاذ الصرب وبانتظار ل اللامتوقع على أحر من الجمر، انها تقنية التقطيع المشهدي، وقد مارسها الكاتب باقتدار كبير، فالحدث عنده لا يتوقف الا في نقطة متوترة مفتوحة على كل الاحتمالات بما ينشئ احساسا من الترقب سواء لوقوع فاجعة من الفواجع، او لحلول نمط آخر من الاحداث لا يقل غرابة وتشويقا عن النمط السابق. اذ هذا الاسلوب الامريكي في الوصف والسرد هو الذي يمنح هذه الرواية تشويقا فريدا ويغمض العين عن هناتها واخطائها السردية، خاصة حينما يلاحظ القارئ ان مصائر الشخصيات واقدارها قد لا تلتقي ابدا، او قد لا يعرف البعض البعض الاخر رغم انهم يتعايشون في مكان واحد. نحن نرى ان طه الشاذلي الفتى الانتحاري يخصه الكاتب بنظام سردي مغلق حتى لكأنه يغدو قصة داخل قصة، او سردا فرعيا داخل منظومة السرد الاصلية، وعلى أية حال تظل القراءة مشدودة بعنف الى الخيوط السردية الكبرى التي تمثل بنية الرواية وغير مبالية بالنقائص طالما ان تلك الشخصيات تتحرك وفق اخراج سينمائي مبهر يفكر في القارئ وفي ذهنية التقبّل لديه قدر تفكيره في بناء الشخصية واكتمالها. ان تقنية التقطيع المشهدي تخلق في الرواية ديناميكية من نمط جديد، فهي لا تفترض في ان تكون الاحداث متوالية او بتوالد البعض من البعض الآخر وانما متوازية تماما كما لو كانت صورا متتابعة في خطين سرديين او ثلاثة خطوط، بحيث يمكن قراءتها بالعين، فيما ان ذلك يعد امرا مستحيلا لو اكتفينا بالنظر الى البنية اللغوية واستبعدنا الخلفية الصورية والمشهدية. ان شخصية زكي بك الدسوقي تجسّد الانسان الارستقراطي المولع بالجنس، ولعل مصائبه وافراحه لا تتصل بشيء قدر اتصالها بالنساء، ويبدو في البداية ألاّشيء يمكن ان يربطه بشخصية بثينة السيد، الفتاة الباحثة عمن يحميها من الفقر والخصاصة، فلكل منهما مساره الخاص غير انه وفي نقطة ما يتقاطع المساران لكي تشتغل عنده سكرتيرة، بكل ما يمكن ان تنطوي عليه هذه الوظيفة من معان في المجتمع الشرقي، ثم تنتهي الرواية بحدث غير متوقع اطلاقا وهو زواجه منها، رغم تباعد العمر واختلاف التنشئة الاجتماعية والطبقية غير ان علاء الاسواني جعل من هذا الزواج على غرابته ومجافاته للمنطق جعله حدثا سينمائيا بامتياز، وكاشفا عن روح هذه الشخصية ومعدنها الاصيل. أسلوب أمريكي ان هذا الاسلوب الأمريكي في السرد، وهذا التكتيك في التقطيع المشهدي يتزامن مع التعبير عن روح مصرية ربما يعد الاسواني من اكثر الروائيين براعة في تجسيدها، فشخصيات زكي الدسوقي وملاك خلّة ودولة هانم وطه الشاذلي والحاج عزّام شخصيات شديدة التنافر رغم انها تستوطن مكانا واحدا، وهي تبحث عن مشروعها الخاص وعن منزلتها في ظل ما تعتقد انه حق لها ووقف عليها، فكل الوسائل مباحة من أجل الوصول الى السلطة والى قبّة البرلمان بالنسبة الى الشيخ الحاج عزام بما في ذلك الرشوة والتي متى انعقدت تقرأ عليها الفاتحة طلبا للبركة وللخير العميم. والواقع ان التشويق الكامن في بناء الاحداث وتكوين الشخصيات يتولد ايضا من التطورات غير المنتظرة، فهناك الكوميديا التي يمكن ان تتحول ولسنا ندري كيف الى اقصى واقسى لحظات الجد، وهكذا انقلب عشق الحاج عزام لزوجته الى كراهية لانها حملت منه ونكثت العهد الذي بموجبه تم عقد الزواج، وهكذا ايضا تحولت العلافة الجنسية المثلية الآثمة الى عنف جسدي محموم بين حاتم رشيد وصديقه عبده الصعيدي. هذا المصائر تشهد تقلبات ناشئة من ضغط الواقع ومن تطاعات النفس البشرية، ولقد كانت لغة التخاطب بين الشخصيات هي لغة الحكي اليومي المصري فكانت وظيفية الى ابعد الحدود ومنسجمة مع المناخ السينمائي الذي أوحت به الرواية فضلا عما في اللهجة المصرية من قوة بلاغية في التعبير عن النكتة بطريقة ظاهرها الكوميديا والاضحاك ولكن باطنها يشي بموقف الشخصيات من بعضها البعض، ومن الواقع والعالم. ولكن يبدو ان علاء الاسواني لم يفته كما هو الأمر في السينما بان يشحن روايته بما هو شديد الاغراء والجمال، ولأجل ذلك كانت صورة المرأة في الرواية من أبلغ المشاهد المعبرة عن قوة حضور الصورة في الكلمة، والمشهد في اللغة، والمرئي فيما هو خطي، انها المرأة بالفعل كما وردت على لسان زكي الدسوقي «عالم من الغواية التي تتجدّد في صور لانهاية لتنوعها الفتّان: الصدور العامرة المكتنزة بحلماتها النافرة كحبّات العنب اللذيذة، المؤخرات الطرية اللدنة المترجرجة وكأنها تترقب اقتحامه المباغت العارم من خلف». هذه ليست كلمات متتابعة على لسات الشخصية، بقدرما هي تكوين صوري ونقل سينمائي لنموذج الجنس الصارخ الذي يلعب بالعقول وينزع الاقنعة ويكشف السرائر. نحن هنا ازاء مشهد ايروتيكي يستمد جماليات التصوير من اللعب على احجام المرأة واشكالها واستداراتها وهذا المشهد وهذا موطن الابداع في الرواية لا يتكرر أبدا رغم ان مواده هي نفسها، بل يتنوع ويتبدل بحسب طبيعة الشخصية التي تتحرك فيه، فاذا ما كانت الشخصية شبقية، كان المشهد يحمل بصماتها (مثل زكي الدسوقي) واذا كانت متديّنة (مثل الحاج عزام) كان المشهد اكثر اشارية وان كان محافظا على ايروسيّته، واذا ما كانت الشخصية شاذة وذات ميولات مثلية (مثل الصحافي حاتم رشيد).. اقتضى الامر على الكاتب الروائي ان يظل وفيا لهذه الميولات ايّا كان موقفه منها. الخطاب الايروسي ان علاء الاسواني يكتب رواية (en 3d.) كما يحلو لنا ان نقول بابعادها الثلاثة فهو يتفنن في وصف المشاهد الايروسية من خلال «امكانيات التعبير الادبي الرفيع ودون اللجوء الى الوصف المجاني او التكثيف المرهق للأعصاب، بل ان شعرية ما تتسلل الى الخطاب الايروسي قوامها لغة الاشارة بما يغني عن التعبير الحسي المباشر وبما يحمّّل لغة الاستعارة الجميلة تبعات المشاهد. وفي هذا الصدد يمكن المقارنة مع الاسلوب الايروسي الذي اعتمده الطيب صالح في «موسم الهجرة الى الشمال». ليس غريبا ان يستعير الكاتب تقنيات التصوير السينمائي من أجل ان يكون السرد ابلغ في التعبير عن المسرود والسارد فهو قد تلقى دراساته الجامعية في امريكا وتمثل بابداعية عالية طرائق الابهار التي تخلقها السينما في الانسان. ولكننا نرى أيضا ان لهذه الرواية سحرا اخر يجعلها متربّعة على «الباست سيلر» وهو الجرأة في تقديم النماذج والأنماط بكل عنفها وعنفوانها من دون ان تطالها يد الرقيب الداخلي والخارجي على حد السواء. عنفوان المعنى وعنف الحقيقة يشمل نظام السرد في الاصل اربع حكايات متوازية ومتقاطعة وقد صهرها في نسيجه عبر آليات التتابع والتداول والتوازي، فهناك شخصية زكي الدسوقي، فطه الشاذلي، فالحاج عزام فحاتم رشيد. ويبدو ان كل شخصية تعيش همّا اجتماعيا وحضاريا سعى الكاتب الى تجسيده بكل قوة واقتدار، فشخصية زكي الدسوقي نموذج للشخصيات الارستقراطية التي فقدت نفوذها المادي والادبي في خضم التحولات التي عصفت بالمجتمع المصري على مدى اكثر من جيلين، وهو سليل الأسر العريقة التي حكمت مصر ايام الحكم الملكي، وهو ايضا صاحب الثقافة العالمة التي تترفع عن الثقافة الشعبية السائدة، وهو فوق ذلك كله يمثل ذاكرة حية لتغيّر احوال البلد، وعمارة يعقوبيان بوجه خاص، في ظل تراجع القيم الديموقراطية وتغوّل المد الديني الاصولي في المجتمعات الشرقية. *** كلمة أخيرة عن «الباست سيلر». فالمؤكد ان ذلك هو اقصى ما يحلم به كل كاتب: طبعات ألفية ولمَ لا مليونية كما هو الشأن بالنسبة ل«دافنشي كود» لدان براون. لكن الامر ليس يسيرا بهذا الشكل لان «الباست سيلر» قد تكون ايذانا على تحجيم الموهبة واختزالها في كتاب واحد فنحن نلاحظ ان اعمال دان براون الاخرى لم تحظَ بالقدر نفسه من الشهرة، بل لا نسرف في القول بان هناك عدم اكتراث ازاء رواياته الاخرى وهو المصير الذي لا نتمنّاه ابدا للروائي المصري الكبير علاء الاسواني.