هل آن الأوان لننكب على تراث حضارتنا العتيدة ومبدعينا وعلمائنا النبغاء ومصلحينا الأفذاذ فهما وتأويلا وتفجيرا لأبعاده التي ما تزال خفية عنا ربما لقصورنا الفكري والمعرفي وضعفنا المنهجي؟ ورد هذا السؤال الملح في كتاب «ابن خلدون والحداثة» الصادر مؤخرا عن دار سحنون للنشر والتوزيع وقد حاول فيه للدكتور محمد الهادي بن الطاهر المطوي إبراز ما تميزت به شخصيته من عقلانية، وما اتسم به فكره من أصالة وتجديد وحداثة. وما يمكن أن يستلهمه الساسة في تونس بعد الثورة من كتبه لإنشاء دولة ديمقراطية تراعي حقوق الإنسان. قسم الدكتور محمد الهادي بن الطاهر المطوي دراسته « ابن خلدون والحداثة » إلى خمسة أبواب تفرعت عن كل منها عدة فصول سعى فيها إلى استكناه الجذور التجديدية والحداثية في تراث ابن خلدون لاكتشاف عبقريته وحداثته في عصر النهضة العربية الحديثة بعد أن ظل مسكوتا عنه ومغيبا طوال عهود. وحفر الدكتور في منابع شخصية ابن خلدون ومكوناتها التي جعلت منها شخصية حداثية ومن مقدمته وسيرته الذاتية تراثا حداثيا وعرّج على البواعث التي حفزته إلى سلوك نهج التجديد والابتكار واكتشاف دروب الحداثة. خصائص الشخصية الحداثية وحقوق الإنسان كما بحث الدارس في خصائص الشخصية الحداثية أولا ثم في مدى حظ شخصية ابن خلدون من هذه الشخصية الحداثية وخصائصها ثانيا وقد حرص على تجنب التماهي بين الشخصيتين العربية الإسلامية والغربية المسيحية نظرا إلى ما يفرق بينهما من عوامل ومكونات وثقافات وغيرها. وفي بحثه عن مظاهر اللقاء أو التراسل بين ابن خلدون وبين المشروع الحداثي عرف الدكتور المطوي ونقد وحلل المنهج الخلدوني وبحث عما عنده من مظاهر الحداثة عبر ما أسسه من علوم وما أحدثه من ألوان حداثية وعمد إلى معرفة الجهازين المصطلحي والمفهومي اللذين تمكن بهما ابن خلدون من التعبير عن القضايا الحضارية الحداثية التي شغلت باله وهجست بها نفسه. ثانيا وهو الأهم إثباته عبر التنقيب والبحث والتفكيك أن ابن خلدون قد ساهم في الكتابة في موضوع حقوق الإنسان وتوصل فعلا إلى اكتشاف هذا الحقل الإنساني والعامل الحداثي حيث كتب الدكتور في الصفحة 157 : « ومن كل ما سبق نستنتج أن ابن خلدون قد لامس بلغة عصرنا ما نسميه اليوم « حقوق الإنسان « ملامسة نعدها وان كانت محدودة لما كان يقتضيه عصره من نظم وعادات، بذرة صالحة وتمهيدا لتشريع حقوق الإنسان مع نشوء عصر الحداثة، وخاصة مع جهود جان لوك الانقليزية ( 1632- 1704 ) والثورة الأمريكية (1690) وفلاسفة الأنوار الفرنسيين أمثال مونتسيكيو وفولتير وجان جاك روسو والألماني إيمانويل كانت.. ثم مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10 ديسمبر 1948 . وهذا دون أن ننسى أن الإسلام، الذي يدين به ابن خلدون، وهذا وجه آخر من أوجه البعد الإسلامي في النظرية الخلدونية، قد سبق الحداثة الأوروبية في إعطاء الإنسان حقوقه مثلما فطن له هو نفسه حينما قال مذكرا قارئه بحق العدل في الإسلام، وواجب دفع الظلم عن الإنسان: «فملكة الإسلام في العدل ما علمت» ( الم: 1/196) .» الأزمنة العربية الحديثة تبدأ مع ابن خلدون لقد بين الدكتور محمد الهادي بن الطاهر المطوي في دراسته انه بالإمكان ان نقول ان ابن خلدون هو الأب الرّوحي لحداثتنا العربية الإسلامية المعاصرة وان الأزمنة العربية الحديثة تبدأ مع ابن خلدون لا مع حملة نابليون على مصر كما ظن الكثيرون وان ابن خلدون يظل المعلم النظري الأول لمفكري النهضة العرب في بحثهم عن أسرار تقهقر مدنية العرب والإسلام وفي بحثهم عن الأسباب المفضية إلى الانتقال من حالة التدني والتدلي إلى حالة التمدن أو التقدم. ورأى الدارس أنه على العرب والمسلمين القيام بقراءات جادة لأعمال ابن خلدون حتى يستبينوا إخلالات عصرهم من اختلالات عصره ويستخلصوا منها ومن رؤاه العمرانية والحضارية دون التقوقع فيها، آليات نهضتهم الجديدة، فيكون لهم بحق مرجعا للبحث والتأمل، وحافزا للنهضة وأبا روحيا للتقدم والحداثة حتى يتجنبوا الوقوع في متاهات و مهاو كانت سببا في مأساة العرب وانهيارهم ومن بينها ذكر الدارس مثلا : - التوهم بان نهضة العرب والمسلمين الأولى هي تميمتهم التي ستضمن لهم البقاء أسياد العالم إلى الأبد والتورط في نظام توريث الحكم والعدول عن محاسن التداول كما مارسه الخلفاء الراشدون ومن شاكلهم والافتقار في حالات كثيرة إلى الزعامة الحقيقية والقيادة المحنكة والحاكم العادل القوي الشخصية الذي يستقطب الأمة بمختلف أطيافها وطبقاتها واتجاهاتها والتنكر للعقلانية التي استفاد منها الغرب الأوروبي وبنى عليها عقلانيته ونهضته وحداثته وقوته (ابن رشد) والثقة العمياء في الأجنبي ومخططاته وأساليبه والتعويل عليه باسم التعاون والانفتاح والخبرة - إهدار التدبير المحكم والاستثمار الرشيد للموارد المالية، سواء بصرفها في مشاريع لا تستفيد منها النهضة العربية المنشودة أو بسرقتها وادخارها في البنوك الأجنبية والتفريط في مفهوم الوحدة القومية التي تسابقت الشعوب الأخرى إلى تحقيقها. رئيس لا يستبد ولا يعبث بأجهزة الدولة ونصح الدكتور بالاعتقاد النزيه في مدبر الكون رمز الحق والخير والجمال والمحبة والعمل بالقيم الروحية والأخلاقية والفكرية التي يجب ان تظلل في جميع الحالات الأفراد والجماعات واعتبار أن تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين هو الغاية الأولى من التنمية وان الكرامة والرفاهية هما حق إنساني ووطني للجميع وان ذلك لا يتم إلا بالقضاء على عوامل البؤس والفقر والبطالة واستئصال مظاهر المحسوبية والوصولية. هذا إضافة إلى نشر التعليم والقضاء على الأمية والجهل وتنمية شعور الاعتزاز باللغة العربية القومية واعتمادها في كل مجالات الحياة والتشجيع على تبني وسائل الثقافة الحية الخلاقة وتطعيمها بالثقافات الحديثة وبترجمة مبدعاتها وشوامخها دون هيمنة ولا استلاب. واكتساب وسائل التقدم العلمي والتقني وتبني مناهج مجتمع المعرفة وترسيخها إنتاجا واستهلاكا وتحديث العقل العربي الإسلامي وتنويره من أجل مشروع التنوير والنهضة والحداثة وان يكون الدين وسيلة تحرر وتطوير وإصلاح لا عامل جمود وتحجر ودروشة. ووضع شروط دقيقة لاختيار رئيس الدولة الرشيد حتى لا يستبد ولا يعبث بأجهزة الدولة والالتزام بالنظام البرلماني الديمقراطي الذي يكون فيه الشعب هو مصدر السلطات الأول والأخير وإشراك القوى الوطنية النيرة في المسؤوليات حسب مقاييس الكفاءة والنضج الفكري والسياسي وإيثار المصلحة العامة. كذلك إحداث لجنة وطنية عليا تتولى متابعة مدى شفافية سلوك كل أفراد الأجهزة الحاكمة.