يبدو أن وزارة التجارة و الصناعات التقليدية قد فشلت في التصدي بجدية لظاهرة الانتصاب الفوضوي التي اكتسحت الشوارع و الساحات وحتى نقاطا أخرى مشابهة، كما عجزت وزارة الداخلية وولاية تونس وعبرها النيابة الخصوصية لبلدية تونسالمدينة وبالتحديد مصلحة التراتيب البلدية عن التصدي للظاهرة وإيجاد الحلول الملائمة لمئات التجار العشوائيين، والمقدر عددهم بحوالي 800 بائع. فبعد عديد الحملات المشتركة التي نظمتها الوزارة أشهرا قليلة إثر الثورة وخاصة بتونس الكبرى وتونسالمدينة تحديدا، وجندت لها ما أمكن من الأعوان من أعوان مراقبة اقتصادية و شرطة بلدية، واستعانت بأعوان الجيش الوطني في بعض الحالات، في وسط العاصمة، وبعد المشاكل التي نتجت عن هذا الانتصاب في بعض النقاط من عنف مادي و معنوي و فوضى عادت الظاهرة من جديد وانتشرت البضائع المختلفة على الأرصفة والممرات وحتى على أجزاء من المعبّد بالعاصمة. هذا المشهد الجديد صبغ المدينة، وسرق منها بريقها في أعين محبيها وفي أعين زائريها خاصة من السياح الذين ظنوا أن الظاهرة لن تعود وأن سلطة الإشراف ستواصل التعامل مع الموضوع بالمزيد من الحزم والصرامة تماما مثلما حدث في أشهر ماي و جوان وجويلية من السنة الماضية، ثم في مفتتح العام الحالي، وهو أيضا مشهد فيه الكثير من الإساءة للشوارع الكبرى التي كانت مسرحا من مسارح الأحداث التي صنعت الثورة، ولتونسالجديدة بعد الثورة ولمكانة المدينة بصفة عامة. فبعد أن انتصب العديد من الباعة تحت الجسور والمحوّلات وعلى الطرقات السيارة، أغلبهم يعرض الخضر والغلال بأسعار تكاد تكون خيالية لكنها تشهد بعض الإقبال، هاهو الأمر يحدث في الشوارع الرئيسية بالعاصمة في شارع الحبيب بورقيبة وشارع فرنسا دون أن ننسى نهج شارل ديغول الشهير وباب الجزيرة طبعا، وكل الساحات القادرة على استيعاب البعض من هؤلاء الباعة لعرض بضاعتهم أرضا، على لوح ، أو بعض الورق المقوى، أو صندوق أو بعض الغطاء البلاستيكي فقط. «من كل نوع يا كريمة» علما أن البضاعة المعروضة أرضا و تحت أشعة الشمس الحارقة،هي في أغلبها أدوات منزلية ومواد تجميل وعطور وأدوات زينة نسائية وملابس متنوعة بين أغطية قماشية للرأس و تنورات وملابس للنوم، وكذلك سجائر مُورّدة و حتى بعض الملابس المستعملة،» فريب».. كما لم تسلم نافورة قوس النصر قبالة مدخل الأسواق، فتكدّست فوقها الأكياس المحمّلة بالأدباش و تجمّع حولها الحرفاء، ولم يسلم القوس ذاته، إذ تحصّنت به بعض النساء و اتخذن منه مكانا لتقديم خدمات نوعية، هي»الحرقوس» للراغبات من التونسيات و السياح على حد سواء، و لم تسلم أيضا الأقواس قبالة المحلات، التي تذمر أصحابها مرارا، والباعة المنتصبون يعملون في حذر. إن تجاذبت معهم أطراف الحديث أخبروك أنهم مضطرّون لذلك لتوفير لقمة العيش ولتجنّب البطالة أو السّرقة، يعرضون بضاعتهم وعين تبحث عن الحريف البسيط أو المغفل أو الباحث عن الأقل سعرا خاصّة في ظل هذا الارتفاع المشطّ للأسعار و لمستوى المعيشة في تونس بصفة عامة، وعين أخرى تراقب الشرطة البلدية و تترصّد فرق المراقبة الاقتصادية غير الموجودة في هذه الفضاءات المنتشرة كالفقاقيع و بكلّ الألوان، في حالة هي أشبه بالكرّ والفرّ بين الطرفين. بضائع مختلفة ومواد متعدّدة تُعرض على الأرصفة و على قارعة الطرق، بأسعار زهيدة مغرية تجعل الإقبال عليها كبيرا من المواطنين وخاصة من النساء والصغار، دون الاهتمام بالجودة أو بالصلاحية أو بالمصدر، وهم بذلك يضربون عرض الحائط بكل التحذيرات والنصائح التي ما انفكت تقدمها السلطات المعنية ومن المراقبة الصحية بالدرجة الأولى. أسباب الظاهرة إن ظاهرة الانتصاب الفوضوي التي بدأت تكتسح بصفة تدريجية الأنهج والشوارع ، تعيد إلى النسيج الاقتصادي معضلة التجارة الموازية التي انتعشت جليا في السنوات السابقة لأسباب عديدة لعل أبرزها تورط عدد من أفراد العائلة القريبة من النظام السابق (من عائلة الطرابلسية)حينها في عملية الإنتعاش بتوريد مواد بصفة غير قانونية ومن مصادر مجهولة لبضائع لا تستجيب في أغلبها للشروط القانونية والتجارية و الصحية،لكنها تعكس بهذا الإقبال الكبير عليها التدهور الكبير الذي بلغته القدرة الشرائية للمواطن التونسي بعد الثورة،نظرا لارتفاع الأسعار والبطالة والأجور المتدنية وعديد المتطلبات الأخرى المتلازمة. و تؤكد الظاهرة أيضا عدم توصل سلطة الإشراف إلى حل جذري للظاهرة رغم أن أنباء ترددت في الأشهر الماضية حول النية في تخصيص فضاء لهؤلاء التجار،هو الفضاء القديم للشركة التونسية للتوزيع بالعاصمة،و تهيئته لاستقبالهم و بالتالي إنقاذ العاصمة من المشاهد المخلة بالذوق و المسيئة للبيئة بسبب أكوام الفضلات التي يتركها الباعة خلفهم عند المغادرة مساء و كذلك الضجيج و أصواتهم المرتفعة. لكن و في انتظار اتخاذ القرار الملائم لحل الظاهرة قبل أن يتحول الانتصاب من عشوائي وفوضوي إلى قانوني بمنطق الأقدمية في»احتلال»الفضاء، وقبل أن تصبح مشكلا حقيقيا،من الضروري أن تعود آلة المراقبة الاقتصادية إلى العمل و أن تتوفر لأعوانها الحماية الأمنية المطلوبة ليكونوا قادرين على التحرذك وبنجاعة في الزمان و المكان اللازمين. الشرطة البلدية :الحملات تتواصل بالإمكانيات المتوفرة افاد مصدر مسؤول ببلدية تونس بأن الشرطة البلدية تبذل كل جهودها للتصدّي للظاهرة وهي تقوم يوميا بحملات مكثفة في كل هذه المناطق التي يكثر فيها الانتصاب الفوضوي، وترفع تقاريرها إلى الأطراف المسؤولة. وقال إن الأعوان يعتمدون في عملهم على الإقناع ومحاولة تفهم الوضعيات الاجتماعية، وكذلك التفسير لتجنب حدوث مشاكل خاصة منها محاولات الانتحار أو التعنيف و غيرها من التصرفات غير المنتظرة، وأضاف المصدر أن الحل الجذري يبقى بين أيدي السلط المعنية وفي إطار جهود متكاملة لأن الأعداد تضاعفت تقربا خلال الفترة الأخيرة. وزارة الداخلية: المشكل سيظل قائما مصدر مسؤول من وزارة الداخلية أوضح أن المشكل سيظل قائما إلى حين جاهزية الفضاء الجديد بشارع قرطاج على اعتبار أن المراقبة مستمرة عبر الحملات المشتركة أو في إطار الدوريات حسب الإمكانيات المتوفرة. اما وزارة التجارة و الصناعات التقليدية- الحلقة الأساسية في العملية- فهي تواصل من جهتها تنظيم دورياتها للمراقبة، لكن جهودها تبقى منقوصة بدرجة كبيرة. ولاية تونس:تهيئة فضاء الشركة التونسية للتوزيع رهين توفر التمويل اللازم يذكر أن مجلس ولاية تونس كان قد اختار بناية الشركة التونسية للتوزيع بقلب العاصمة من بين فضاءات أخرى تم اقتراحها لاستقبال هؤلاء الباعة، وقد انطلقت بعد عملية تهيئة الفضاء المذكور بشارع قرطاج، وقدرت كلفته الأولية بحوالي 250 م د، إلا أنه تبين بعد الانطلاق في التهيئة أن التكاليف الحقيقية أكثر من ذلك بكثير، خاصة وأن النية تتجه إلى تحويل الفضاء إلى مركز تجاري هام، و قد ارتفعت الكلفة إلى أكثر من 7 م د، وهو ما عطل عملية التهيئة التي توقفت في الفترة الأخيرة حتى التوصل إلى توفير التمويل اللازم وقد قدر المبلغ الحالي بمليارين في انتظار إتمام البقية لإنجاز المشروع. و أفاد مصدر بولاية تونس ل»الصباح» أن الانتصاب بالفضاء عند تهيئته وانتهاء أشغاله سيكون بمقابل ولن يكون مجانيا، وأن النقابة التي أسسها هؤلاء التجار هي التي ستتكفل بتحديد القائمة النهائية للذين سينتفعون بحق الانتصاب في هذا الفضاء، كما أن طاقة الاستيعاب قد لا تتجاوز 500 بائع.