لئن لم نرث عن حقبة بورقيبة سلطا مضادة بأتم معنى الكلمة، فإنه يمكن التأكيد على ان البلاد لما تمت إزاحة أول رئيس للجمهورية عن سدة الحكم كانت عموما في حالة مخاض، وان انبثاق عديد السلط المضادة كان في نطاق الممكن والمتوقع. وبعد أن تبنى بن علي لأسباب تكتيكية لفترة وجيزة مشاريع الحداثة وعقلنة مؤسسات الدولة والانفتاح الديمقراطي، فإنه سرعان ما التف على كل تعهداته، واصبح هاجسه الرئيسي الحيلولة دون قيام أي سلطة مضادة في البلاد، من شأنها ان تهدد مشروع الدولة الدكتاتورية «المافيوزية» التي كان يخطط لها منذ البداية. فكان القضاء الى جانب الاعلام من أشد القطاعات التي عملت فيها معاول هدمه تحطيما وإفسادا بلا هوادة، فطوّعه حسب مخططاته ونزواته لخدمته وخدمة المافيا المتوحشة التي رأت النور في عهده، وقد استغل القضاة الفاسدون هذا الوضع ل»يفيدوا ويستفيدوا»، فأصبح الظلم والارتشاء بشهادة أهل المهنة انفسهم والمحامين أيضا يكاد يكون القاعدة، والحياد والنزاهة الاستثئناء. واثر الثورة برز تطهير القضاء كأحد استحقاقاتها الرئيسية، واحدى أولويات المرحلة الانتقالية. فتفكيك مختلف منظومات الفساد في البلاد خلال المرحلة الانتقالية المفصلية ليس ممكنا بداهة دون تفكيك منظومة الفساد داخل السلطة العدلية نفسها، الا أنه بدا وكأن السلطة الحاكمة مترددة في ذلك، على غرار ترددها بالنسبة لمختلف «الحضائر الكبرى للفساد» في البلاد. وها هي بالاجراء الذي اتخذته مساء السبت الماضي بإقالة 81 قاضيا تحوم حولهم شبهة فساد أو ما هو أكثر من شبهة، لأن الامر يتعلق بوقائع وملفات يبدو وكأنها قد قررت على الاقل بالنسبة لقطاع القضاء «الإمساك بالثور من قرنيْه» وإلقاء نفسها في المعمعة. ولئن كنا لا نشاطر القاضي أحمد الرحموني في تعليقه القاسي جدا على القرار، بأنه مناورة سياسية لأن «جميع ما يخرج من السياسيين في جميع الأحوال لا يمكن أن يخرج عن نطاق المناورة السياسية» على حد قوله لأنه قراءة قاطعة لا رجعة فيها للنوايا، فإنه يمكن القول إن السلطة الحاكمة يغيب عنها منذ امساكها بمقاليد الحكم معطى رئيسي من قانون اللعبة الديمقراطية وأنها لا تتعظ بأخطائها السابقة، كتلك التي وقعت فيها عند تعيين مسؤولين عن مؤسسات إعلامية حكومية لهم ماض تجمّعي. فمن المقتضيات الأساسية للنظام الديمقراطي تجنّب الانفراد في أخذ القرار والركون الى التشاور مع أهل كل قطاع تتوجه النية لإصلاحه وتطهيره والاستنارة برأيهم، فأهل مكة أدرى بشعابها، فذلك يجنّبها والبلاد من ورائها الدخول في معارك هامشية من أجل تفاصيل وجزئيات، بينما الهدف هو محل إجماع.