إن الأجواء التي رافقت عرض فيلم صالح بن يوسف جريمة دولة ؟ الذي أخرجه جمال الدلالي وأنتجته الجزيرة الوثائقية بمسرح قصر الجمهورية بقرطاج ليست الأجواء المعتادة بالقاعات السينمائية أو بالمسارح. فعرض الفيلم بقصر قرطاج وبحضور رئيس الدولة محمد المنصف المرزوقي الذي دعا زوجة الرّاحل صالح بن يوسف بنفس المناسبة إلى جانب عدد من المثقّفين والمناضلين السياسييّن خاصة من مدن الجنوب التّونسي فيه رسالة واضحة ويحمل موقفا. تولي عدنان منصر الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية تقديم الأمسية وإدارة الحوار. لم نكن إزاء قراءة لأحداث الفيلم كعمل فنّي إبداعي وإنّما كان الفيلم منطلقا للخوض في قضية الصراع البورقيبي- اليوسفي. تدور أحداث فيلم صالح بن يوسف جريمة دولة ؟ وهو فيلم وثائقي مطعّم بمشاهد درامية تمثيلية ( فيها تشخيص لجريمة قتل صالح بن يوسف) حول الصراع بين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وهما زعيمان بالحركة الوطنية اختلفا في نهاية المطاف حول رؤية كل واحد منهما للمشروع المستقبلي للبلاد وانتهى الصراع بالدم حيث وقع اغتيال صالح بن يوسف في فندق بألمانيا في بداية الستينات من القرن الماضي بعد أن وقع استدراجه إلى ذلك الفندق. فخ حصر الصراع بين قوى الخير وقوى الشر الفيلم حتى وإن بدا في ظاهره يحاول أن يكون موضوعيا بتعويله على شهادات من أسماهم بالبورقيييين فإنّه وقع في فخ الثنائيّات. فقد كنّا إزاء صراع بين قوى الخير وقوى الشرّ. يخرج المشاهد خاصة إذا كان خالي الذهن تماما من خلفيات الصراع بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف بانطباع مفاده أن الصراع بين الرجلين هو بالأحرى صراع بين الضحية والجلاد أو بين الملائكة والشيطان والحال أن كل من له دراية ولو قليلة بعالم السياسة يدرك أن هذا العالم لا يضم ملائكة. ماذا يعني إذن هذا الإختيار وماذا يعني ذلك الكمّ من التأثّر الذي بدا على الحضور وماذا يعني حرص البعض من الضيوف على تقديم التّعازي لأرملة صالح بن يوسف بعد 40 سنة على مقتله ؟ لماذا إعادة احياء القضية بعد عقود من الزمن وأي رسالة تريد رئاسة الجمهورية بعثها إلى التونسيين من خلال هذه المبادرة؟ ثم إن كان لابد من إعادة فتح الدفاتر القديمة هل لدينا ما يكفي من الضمانات بأن التونسيين أصبحوا اليوم على استعداد لأخذ مسافة من الأحداث وبات من الممكن مناقشة القضية بالهدوء والعقلانية التي تقينا من فرضية تأجيج الضغائن؟ ثم لماذا تقوم قناة الجزيرة بإنتاج الفيلم ومحاولة كتابة تاريخ تونس وأي خطر يتهدّد ذاكرتنا وأعلامنا عندما تترك مهمة إعادة كتابة التاريخ لقنوات أجنبية؟ هذه الأسئلة وغيرها من الصّعب أن لا تتزاحم في الذهن في هذه الأمسية التي دعي لها عدد من الإعلاميين حتى وإن سارع الرئيس المرزوقي إلى إعلان المقصد من هذه المبادرة محاولا وضع الأمور في نصابها قبل أن تتّخذ الأمسية اتّجاها بعينه وذلك لما قال أن عرض الفيلم يأتي في إطار الرغبة في معرفة الحقيقة مضيفا قوله نحن لسنا طلاب ثأر ولا نريد أن ننتقم من أحد ولكن نريد أن نعرف الحقيقة لأن المصالحة لا تتم إلا بمعرفة الحقيقة . لكن الرئيس المرزوقي حتى وإن قال ذلك فإن تأثره الكبير وعلامات الحزن التي كانت بادية عليه وهو يعلق على أحداث الفيلم لم تمر بدون أن تثير الإنتباه. لم يتحدث المرزوقي باسمه كرئيس دولة فحسب بل تحدث كذلك باسم عائلته وذكر والده اليوسفي وقال أن بيت والده بحمام الأنف كان ينعت لفترة ببيت الخائنإلخ... تذكّر طفولته وكيف كان يشعر وهو طفل في حضور الزعيم صالح بن يوسف بأنه يعيش لحظات تاريخية مهمة دون أن يستطيع أن يفقه معنى ذلك بالتحديد وهو الطفل الصغير. العاطفة والحماس تدخلات الحضور لم تكن لتيسّر مهمة من كان همه الوحيد فهم ما يحدث بالضبط. فالجميع تقريبا وباستثناء قلة قليلة ممن تدخلوا بالمناسبة أخذتهم العاطفة والحماس بعيدا. ومن حقهم ذلك خاصة وأن من بين الحضور من عاش الحادثة عن قرب أو من له في عائلته من وقع ضحية هذا الصراع، لكن هل يمكن للنقاش المشحون وللنفوس التي تنادي بالإنتقام أن تسمح بفهم واضح لذلك الصراع الذي قسم التونسيين في فترة ما وهو يهدد اليوم بأن يزيد في انقساماتهم في هذه المرحلة الصعبة من تاريخنا؟ الأمسية لم تقتصر على عرض الفيلم وعلى ردود أفعال الحضور. لقد تم كذلك استعراض عددا من الوثائق حول الصراع البورقيبي اليوسفي التي عثر عليها بالأرشيف التابع لرئاسة الجمهورية. وقد قام عدنان منصّر بالتعليق على هذه الوثائق وتلخيص محتواها. استضاف عدنان منصر كذلك كل من مخرج الفيلم التونسي جمال الدلالي المقيم بالخارج الذي سبق له وأن قدم أفلاما وثائقية حول الزعيم فرحات حشاد وحول المنصف باي. دعا المخرج إلى مواصلة التحقيق حول مقتل صالح بن يوسف ودعا إلى فتح الملف المغلق بألمانيا. ونفى المخرج أن الإتهام الذي وجه إليه بأنه قام بالفيلم لتصفية حسابات مع الباجي قائد السبسي الوزير الأول الأسبق. قال أن الفيلم أنتج من أجل الحقيقة وأنه حاول قدر الإمكان أن يغوص في تلك الحقيقة وذلك التاريخ بدون أي خلفية سياسية. استضاف عدنان منصر كذلك استاذ التاريخ محمد ضيف الله الذي كان ضمن فريق الفيلم كمستشار تاريخي وقد علق بالخصوص على مسألة غياب البحوث حول قضية صالح بن يوسف قائلا أن الجامعة التونسية قامت بدورها بطريقة موضوعية وأن الحركة اليوسفية حظيت بأطروحات بالجامعة وأن بورقيبة لم يحظ بأي دراسة جامعية. مع العلم وأن مدير قناة الجزيرة الوثائقية أحمد محفوظ كان من بين الضيوف بنفس المناسبة وسلم الرئيس المرزوقي درع القناة.