لا بدّ أن ننظر بين الفينة والأخرى إلى ما حولنا، كلما تمعنا في مشاكلنا وقضايانا وتعمقنا في تحليل الصعوبات والعراقيل، يتعين علينا التوقف عند تجارب مماثلة، وفي هذا السياق المقارنة مع أحوال بقية الثورات العربية، وحال الثورات في بلدانها. عندما نرى ثورة لم تكتمل مراحلها الأخيرة في ليبيا فتكون الأوضاع مرشحة للتصعيد والانقسام، وعندما ترى انتخابات في مصر وردود فعل متشنجة تسبق النتائج، وأحكاما قضائية لم تكن في مستوى آمال البعض، وثورة وأدها الالتفاف عليها في اليمن، وثورة تحتضر في سوريا ولم تبق لها سوى رصاصة الرحمة من روسيا.. عندما نرى كل ذلك علينا أن نحمد الله، لأن زمام الأوضاع في تونس رغم كل شيء مازال لم يفلت من الأيادي. صحيح أن الأوضاع -إجماليا- ليست كما يتمناها التونسيون بعد عام ونصف من الثورة على أصعدة مختلفة وعديدة، لأن بين التمني والواقع مسافة تقاس بمدى جدية الحكومة في التعاطي مع مجمل المشاغل، وبمستوى الوعي العام لمختلف مكونات الشعب بخصوص الاعتصامات والإضرابات العشوائية، وبروز مظاهر دخيلة على المجتمع التونسي ممثلة في السلفية، وتوجيه ضربات قوية لحرية التعبير والتعايش والتشبع بالديمقراطية.
من المسؤول؟ وبالتأكيد سيكون تحميل جهة واحدة المسؤولية تحاملا، وسيجانب الموضوعية والحقيقة أيضا، وبالتالي لا مفرّ من القول أن المسؤولية جماعية، وهناك أطراف بعينها تتحمل القسط الأكبر من تلك المسؤولية. من المنطقي القول أن الحكومة الحالية، وأية حكومة كانت محلها ستجد هامش المناورة محدودا لديها لعدّة أسباب أهمّها افتقارها للخبرة، مثلما تنقصها الموارد المالية الضرورية لتنفذ برنامجها ومن خلاله عديد الوعود الانتخابية، كما تفتقر الحكومة الحالية إلى الخيال لكي تتمكن من تسويق برنامجها الحالي وبرامجها المستقبلية إن صحّت العبارة، أي الإيحاء للمواطن التونسي بأن هناك استمرارية في برامج الحكومة الحالية وبرامج الحكومة المقبلة، وهو ما يعني ضمنيا أهمية إعادة التجديد لأحزاب الترويكا في الانتخابات المقبلة. وهناك خطوات تفسّر هذا الاحتمال، لعل أهمها إسراع مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي وزعيم حزب التكتل إلى تحديد موعد 23 أكتوبر 2012 للانتهاء من صياغة الدستور، حيث جاءت الخطوة كدور بطولي في مواجهة جلسات التأسيسي الماراطونية، وبمثابة وضع الجميع أمام الأمر الواقع، لكن لم تخف الخطوة الرغبة في إعادة تجميع ما تبقى من صفوف التكتل بعد الانشقاق داخله تحسبا لانتخابات 23 مارس 2013. كما لا يمكن إغفال ما تمّ توجيهه من انتقادات حادّة للحكومة من جانب أحد مستشاري رئيس الجمهورية المؤقت، وهو ما يعني أن منصف المرزوقي أراد هو الآخر وضع حزبه حزب المؤتمر في سياق انتخابي. وتبقى حركة النهضة التي تعدّ لمؤتمرها هذه الصائفة أكثر تماسكا وتنظيما، بل نجحت في تقديم نفسها كحزب وسطي ومعتدل، وكذبت التخمينات التي أعقبت الانتخابات السابقة بأن الحركة سينكشف أمرها كحزب متطرّف ومتشدّد، غير أنه باستثناء مواقف البعض من أعضاء النهضة من الفصل الأول من الدستور وتحديدا التنصيص على الشريعة الإسلامية، بقيت الحركة تعمل على تقديم صورة الاعتدال.
فك الارتباط ولا شك أن تصاعد أعمال عنف جانب من السلفيين، خلال الأشهر الماضية، وتمكين حزب سلفي من التأشيرة من شأنه أن يخدم النهضة ويصنفها ضمن تيار الاعتدال والوسطية، وهو ما يتضمن رغبة في محو ما علق بالأذهان من أن النهضة متسامحة ومتعاطفة مع التيار السلفي. إذن يمكن القول أن فك الارتباط بين النهضة والتيار السلفي قد تحقق أولا قبل بضعة أسابيع من تنظيم مؤتمر الحزب، وثانيا بما يشكل بلوغ الخط السويّ في السباق الانتخابي. وفي الوقت الذي تبدو فيه أطراف الترويكا قد شرعت في الاستعدادات للانتخابات، تبقى وضعية المعارضة أو المعارضات محل أكثر من علامة استفهام، فقد قيل الكثير حولها بخصوص التشتت وعدم جديتها، واتضح بعد فترة من التجربة سواء للمعارضة داخل التأسيسي أو خارجه أن المعارضة ككل ظل آداؤها محتشما، ولا بدّ أن تتحمل مسؤوليتها، فهي ليست في خدمة نفسها فحسب، بل إن مثلها مثل الحكومة يتعين أن تكون في خدمة الشعب، وليس فقط بديلا انتخابيا لتفوز في الانتخابات. فالاكتفاء بترصد الهفوات وتصيّد الأخطاء وإحراج الحكومة لا يجب أن يكون هدفا في حدّ ذاته، بل تمهيدا لتقديم حلول وطرح بدائل، والاقتراح على الحكومة الأخذ بما تقدمه من حلول أو طريقة عمل بخصوص قضية ما، وعندما ترفض الحكومة الأخذ بذلك يتعين عليها تحمّل مسؤوليتها. ولئن كاد اقتراح السنة البيضاء أن يوقع بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، فإن تصاعد عدد الإضرابات القطاعية ينبئ هو الآخر بأن الحكومة ستجد نفسها في موقف صعب جدا، لأنها بعد أن تراجعت بخصوص السنة البيضاء هاهي تجد نفسها مجبرة على التوصل إلى اتفاقات بشأن بعض الإضرابات.
اتحاد الشغل قوي لقد أصبح اتحاد الشغل الطرف الوحيد القوي القادر على الوقوف ندّا للندّ مع الحكومة، بالنظر إلى تراجع دور المعارضة، وبالتالي أصبح يحسب له ألف حساب في الحياة العامة. ويكشف فشل اقتراح تشكيل حكومة إنقاذ وطني -الذي تقدّم به الحزب الجمهوري مرّة أخرى- ضعف صوت المعارضة، وعدم التمكن من إيجاد موضوع محوري، يكون قادرا على جلب انتباه التونسيين، ومحاولة تعبئة الرأي العام بشأنه. اتحاد الشغل والهيئة الوطنية للمحامين ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان نجحوا في طرح مشروع قانون مشترك بشأن هيئة مستقلة للانتخابات يكرس مبدأي الاستقلالية والحياد ونحن على أبواب انتخابات تشريعية يتعين الإعداد لها من الآن. بالتأكيد فهؤلاء من أبرز مكونات المجتمع المدني في تونس، وبالتالي سيكون للمقترح الجديد أصداء، وهنا تكمن الرغبة في عدم ترك الحبل على الغارب للحكومة، ومحاولة تشديد الخناق عليها بعد أن حاولت ترك موعد الانتخابات موضع غموض، أو عندما حاولت كسب الوقت ومحاولة فرض رؤية معينة للهيئة العليا المستقلة أو الوطنية للانتخابات.. إنه نجاح في تحويل ثقل الأزمة من استقطاب ثنائي بين المعارضة والحكومة بشأن حكومة الإنقاذ الوطني إلى الانتخابات المنتظرة، الموضوع الأكثر أهمية وإثارة. رغم كل شيء لا مقارنة بين الأوضاع في تونس وفي بقية البلدان التي شهدت ثورات شعبية، لأن هناك مستوى -ما زلنا محافظين عليه- من الحوار والاحترام بين مختلف الفاعلين في الحياة العامة التونسية.