تثير المطالبة باستقلال القضاء عدّة تساؤلات ذالك أنها تغيّب المطلب المجتمعي الأساسي المتمثل في عدالة القضاء من ناحية ولأنها تختصر إصلاح القضاء في عبارة غامضة من ناحية أخرى. إصلاح القضاء : من المطلب الثوري إلى المسعى الفئوي إن ما يترقّّبه المواطن و المجتمع من منظومة القضاء هو العدالة. عديد من العناصر تتداخل و تتفاعل لتؤثر في سلامة أداء القضاء لوظيفته ، منها نزاهة القاضي و كفاءته ومنها توفّر الظروف المادّية الملائمة لعمله و منها قدرته على عدم التأثر بعوامل خارجية ومنها كذلك استقلالية المؤسسة القضائية عن السلطة التنفيذية و عن مراكز النفوذ. لا يمكن إذا تفسير اهتزاز ثقة المجتمع تجاه مؤسسة القضاء بتبعيته للسلطة التنفيذية فقط. فاستقلال القضاء على أهميّته يبقى سوى مسالة من بين عديد المسائل التي من شانها أن تساهم في إصلاح القضاء دون أن تضمنه لوحدها. لكن ما يستشف من مواقف جمعية القضاة ونقابتهم يدفع إلى الاعتقاد بأن الهدف الحقيقي من رفع شعار استقلالية القضاء هو تطويع القطاع لسلك القضاة ذلك أنه يختزل كل حيثيات وأبعاد ملف إصلاح القضاء في مسألة ظاهرها استقلال القضاء وباطنها تفرّد القضاة بالمؤسسة القضائية. إن الإيهام بان استقلالية القضاء تعني بالضرورة إصلاحه أو عدله يعدّ مغالطة فظّة فالاستقلاليّة لوحدها قد لا تعني الكثير بل قد تحوي عديد المخاطر ليس أوّلها تغوّل السّلطة القضائية ولا آخرها شبح التّوريث في القطاع. وهم الإصلاح من الدّاخل إن نكث جمعيّة القضاة عهدها بنشر قائمة لما يفوق مائتين من القضاة التي اعتبرتهم من الفاسدين لا يدعم مصداقيّتها ولا يعزّز الثّقة في خطابها بل يدفع إلى التساؤل عن طبيعة أهدافها المرحليّة . كما أن ردّة الفعل المتسرّعة و المتشنّجة للجمعية و النقابة عقب إعفاء بضع عشرات من القضاة من مناصبهم و الدّاعية للإضراب المفتوح أو المؤجل بشعارات مختلفة تحمل دلالة أساسية توحّدهم و تتمثل واقعا في المراوحة بين الاحتجاج على الإصلاح وممانعته وبين الوقوف ضد معاقبة القضاة الفاسدين وتطهير القطاع. ويصحّ موضوعيّا تصنيف المعركة الشرسة التي يخوضها القضاة في خانة البحث عن تحقيق مكاسب فئوية للاستفادة من الوضع الانتقالي لمؤسسات الدولة وهي معركة على مسافة هامّة من الرّغبة الحقيقيّة في إصلاح القضاء لفائدة المجتمع ، إذ يبدو أن المصالح الفئوية قد طفت بفعل الزمن على النفس الثوري وأصبح شعار الإصلاح يرفع من الدّاخل كخطّ دفاعي يتمترس وراءه القضاء للإفلات من الإصلاح و التطهير من ناحية، وكأداة واعدة لتحقيق مآرب فئوية من ناحية أخرى. في البحث عن الشّرعيّة إن أحكام القضاء تصدر باسم الشّعب. إن تغييب الشّعب و ممثليه أو تجاهلهم في الإشراف على سير القضاء وتسييره يتنزّل في موقع السّطو على صلاحيات الشعب لفائدة من لا يتمتع ضرورة بالشرعيّة المناسبة. إن الوظيفة الاجتماعيّة للسّلطة القضائية تتمثل في إشاعة العدل بالمفهوم القانوني باعتبار الواقع الاجتماعي. لكن الاقتصار على القضاة والحقوقيين في سير و تسيير مرفق القضاء يعزّز المنحى الفئوي للتكنوقراط الحقوقيون و يحوّل المرفق في أفضل الحالات إلى جهاز تقني في المادّة القانونية في معزل عن الواقع الاجتماعي وعن قيمة العدل. إن موقفي النقابة و الجمعية على ما يبدو فيهما من تباين يدفعان عمليا إلى استفراد القضاة بالمؤسسة العدلية وفك ارتباطها بالشعب والمجتمع بعيدا عن كل مساءلة أو مراقبة خارجيّة. يشار إلى أن غالبيّة الأنظمة القضائية للدّول الديمقراطية توفّر آليات تضفي الشّرعية المجتمعيّة على السّلطة القضائية، وتوفّر ضمانات لدرء تفرد جهاز فئوي بها، من ذلك المجالس الشعبيّة للقضاء أو انتخاب القائمين على بعض الوظائف في المؤسسة القضائية وغيرها من الصيغ وذالك لتأكيد ارتباط المؤسسة القضائية بالمجتمع وبالشرعّية وهو ما نفتقده في المقاربة التونسية لإصلاح المؤسسة القضائيّة. الصغيّر الصالحي