صباح يوم السبت 12 فيفري 2011 على الساعة العاشرة بالتّحديد، هذا هو الموعد الذي ضربته جمعيّة القضاة التونسيين لتجميع القضاة في ساحة قصر العدالة في مهمّة غير عاديّة هي: تحرير القضاء التونسي. اصطف القضاة فور التئام صفوفهم فوق مدارج قصر العدالة ووقف أمامهم جمع من المحامين ومن المتقاضين وكان التفاعل كبيرًا بين الطرفين. كان أحمد الرحموني رئيس الجمعيّة صريحًا في خطابه. ❊ في اتجاه القضاة أوّلاً لمّا خاطب ضمائرهم قائلا لكلّ واحد منهم: »استمدّ قوّتك من الشعب أيّها القاضي وتخلّص من الخوف ومن قيود الماضي«. ❊ وفي اتّجاه جموع الواقفين أمامه ثانيا لمّا قال لهم منبّها. »إنّ الثّورة ستفقد معناها دون قضاء مستقلّ«. أمّا القضاة الملتفّون حوله فقد ردّدوا شعارات كثيرة لعلّ أهمّها: »القضاء بالمرصاد، ضدّ الرّشوة والفساد«. »القضاء مستعدّ للنضال إلى آخر حدّ«. »يا تكاري يا جبان القضاء لا يُهان«. أمّا واجهة قصر العدالة فقد كانت مزدانة بلا فتات كثيرة لعلّ أهمّها هي تلك التي كتب فوقها: »القضاء على عصابة القضاء«. »عاجل! تطهير القضاء من الفاسدين«. تأتي هذه الوقفة التي دامت أكثر من ساعة على خلفيّة عودة الهيئة الشرعيّة للجمعيّة التونسيّة للقضاة في يوم مشهود بعد 14 جانفي 2011 إلى المقرّات التي وقع تغييبها عنها لمدّة تفوق خمس سنوات من قبل النظام البائد وأزلامه وبالتّحديد منذ سنة 2005، وهي الفترة التي شهدت صعود هيئتين مواليتين للحزب الحاكم وتسلّط فيها العسف على المتمسّكين بالشرعيّة وخاصّة على ليلى بحريّة وكلثوم كنّو وحمدة الرّحماني ونورة حمدي وأحمد الرّحموني وروضة القرافي ووسيلة كعبي. علما بأنّ الهيئة الشرعيّة قد كان لها قبل تنظيم »« لقاء تمّ يوم 2 فيفري 2011 مع الأزهر القروي الشابي الشاغل منذ فرار الطاغية المسمّى »بن علي« لمنصب وزير العدل، وقد تقدّمت له خلاله بجملة من المطالب الأساسيّة هي: 1 التطهير الفوري للقضاء من رموز الفساد. 2 تحرير القضاء من هيمنة السلطة التنفيذيّة. 3 التكريس الفعلي لعدم نقلة القاضي إلاّ برضاه ولترقيته آليّا. 4 ابراز المجلس الأعلى كمؤسسة دستوريّة. 5 اعداد حركة قضائيّة استثنائيّة لرفع المظالم التي سلّطت على القضاة. 6 فتح ملف تعاونيّة القضاة. 7 احداث لجنة وطنيّة لاعداد مشروع للنّهوض باستقلال القضاء. إنّ غزارة العواطف والمواقف التي عبّر عنها القضاة في وقفتهم قد ذكّرتني شخصيّا بيوم آخر عاشه القضاة منذ 29 سنة خلت، كان ذلك يوم 9 أفريل 1982 بنزل أميلكار حيث دعت الجمعيّة التونسيّة للقضاة الشبّان آنذاك لانعقاد ما أسمته: »المؤتمر الأوّل للقضاة« كان رئيس الجمعية آنذاك هو القاضي فريد الحديدي، أمّا الأزهر القروي الشابي فقد كان آنذاك عميدًا للمحامين. أمّا كاتب هذه الأسطر فقد كان حاضرًا ضمن صفوف المحامين المساندين لاستقلال القضاء وقد بادر آنذاك بتحرير مقال تفضّلت جريدة »الشعب« بنشره بتاريخ 16 أفريل 1982 بامضاء م.ص.م وهي الأحرف الأولى لاسمه »محمد صالح« وللقبه الذي عرف به بين النقابيين وهو »المعروفي« وقد رأى اليوم أنّه سيكون من المفيد إعادة نشر ذلك المقال، ولعلّ القارئ عند انتهائه من القراءة سيقول: »ما أشبه اليوم بالبارحة«. ولكنّ كلّ شيء يقول بعد 14 جانفي 2011: إنّ اليوم لن يكون أبدًا شبيهًا بالبارحة وإنّ القضاة سيتمكّنون بمناسبة الحركة الثوريّة لشعبهم من أن يحقّقوا كلّ ما يصبون إليه على درب بناء سلطة قضائيّة جديرة باسمها أي سلطة قضائيّة لا تحيد عن الحقّ احتراما لدم الشهداء الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل حياة جديدة لتونس، حياة قوامها الحريّة والعدل والمساواة فليس هذا العزيز على ارادة القضاة هذه المرّة وهم الذين كتبوا فوق احدى لافتاتهم: »الشعب يريد قضاء لا يحيد والقضاء يجيب: لبّيك يا شهيد«. وفيما يلي المقال الذي كتب منذ 29 سنة خلت تحت عنوان: تحيّة للمؤتمر الأوّل للقضاة كانوا كلّهم تقريبا هنا. شيوخًا وكهولاً وشبّانًآ. جاؤوا من كلّ جهات البلاد: من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ومن أطراف الشرق إلى أطراف الغرب. هم: أعني القضاة الحاكمين في دماء النّاس وحريّاتهم وأعراضهم وأموالهم. وهنا: أي في نزل أميلكار. والمناسبة هي المؤتمر الأوّل للقضاة الذي دعت جمعيّة القضاة الشبّان إلى انعقاده ليوم الجمعة 9 أفريل 1982. كان كلّ شيء يثير السؤال. لماذا سمّي القضاة اجتماعهم مؤتمرا ولم يسموه ملتقى أو ندوة؟ وماذا عساهم يريدون القول في هذا المؤتمر الأوّل من نوعه؟ ثمّ كيف تتحمّل جمعية القضاة الشّبان بادرة جمع كلّ القضاة ولا تكتفي بالتوجّه نحو القضاة الشّبان فقط؟ يبدو أنّ كلّ هذه الأسئلة لم تكن ذات معنى كبير بالنّسبة إلى المجتمعين. كلّ ما كان يهمّهم هو أنّهم اجتمعوا رُغم بعض العراقيل وأنّهم سينتهزون الفرصة لمناقشة مشاكلهم بصفة مستفيضة. كم كانوا؟ لقد استعصى عليّ حسابهم يومها. ولكن يبدو أنّّهم كانوا أكثر من ثلاثمائة بكثير. ربّما قاربوا الأربعمائة وبالطّبع كان هناك ضيوف من المحامين ومن رجال الاعلام وبعض الشخصيات الأخرى. ومن السّاعة العاشرة صباحا إلى حدود الساعة الثامنة ليلا... وحتّى خلال الوقت الذي استغرقته مأدبة الغذاء لم ينفكّ القضاة يتطارحون مشاكلهم ويتدارسون حلولها الممكنة. وبالطبع لم تكن كلّ النقاشات مفتوحة للعموم. فبين الحصّتين الافتتاحيّة والاختتاميّة كانت هناك حصّة مسائيّة مغلقة لم نعرف من محتوى النقاشات التي دارت فيها غير اللّوائح التي صدرت عن اللّجان. ولكن ماذا كان يمكن للسّادة القضاة أن يقولوا خلالها أكثر ممّا قالوه في الجلسة الصّباحيّة؟ لقد ألقى السيد فريد الحديدي خلال هذه الحصّة كلمة المكتب التنفيذي لجمعيّة القضاة الشّبان. تكلّم برصانة... كانت كلمات النص مختارة وفي مستوى راق من اللّياقة ولكن لم تكن تنقصها الصّراحة ولا الجرأة. ولقد رسمت هذه الكلمة إلى حدّ ما مسار المؤتمر بأكمله وساهمت في تحديد معالمه. وقد بدأها السيد فريد الحديدي بإشاعة جوّ من الخشوع إذ دعا جميع الحاضرين إلى الوقوف دقيقة صمت ترحّما على أرواح الشهداء في ذكراهم الرّابعة والأربعين. وكان ذلك واجبا وطنيّا. ولكن أيضا مدخلا جيّدا لربط الحاضرين بالمبادئ السّامية: »فالمبادئ العظيمة هي وحدها التي قادت الانسان في كلّ أطوار وجوده والكلمات الصّادقة هي التي شيّدت العالم«. ووفاءً لهذا المنهج أكّدت الكلمة الافتتاحيّة أنّ »القضاء أمانة عظمى. لذا يجب علينا قُضاةً أن نعدل في قضائنا ولا نجور، فذلك هو حقّ أنفسنا علينا وحقّ النّاس علينا«... »وقوام العدالة هو استقلال القضاء. إذ دون استقلال لا يتوفّر العدل الذي من شأنه بعث الطمأنينة في النّاس فلا يشعر أيّ فرد بحيف أو يطمع في محاباة. فاستقلال القضاء ضرورة بمليها الدّستور وفرض معنوي يمليه واجب اقامة العدل بين النّاس. اذ لا ازدهار لأمّة قبرت عدالتها«. ويمكننا ان نقول إنّ المؤتمر كلّه قد طغى عليه هذا المبدأ الكبير: مبدأ استقلال القضاء، إلى حدّ أنّه يمكن تسميته مؤتمر استقلال القضاء دون أيّ تعسّف على الواقع. لقد كان الشعار الأصليّ للمؤتمر هو الكلمة الأثيلة لابن خلدون »العدل أساس العِمْرَان« ولكن كلّ شيء في المؤتمر تركز من الناحية الفعليّة حول شعار استقلال القضاء: اللاّفتات، ومقتطعات الورق المقوّى المعلقة على الجدران وتدخلات الضيوف. ثمّ تدخلات القضاة أنفسهم أكّدت كلّها على هذا الشعار الكبير، حتّى ليخيّل للمرء أنّ يوم الجمعة 9 أفريل 1982 سيسّجله التاريخ يومًا من تلك الأيّام التي يقف فيها النّاس لاجلاء الغبار المتكّدس حول المبادئ ولإعادة اللّمعان إلى معدنها الصّافي. »في استقلال القضاء ضمان للحريات« هذا ما أكّدت عليه لافتة بيضاء كبيرة مكتوبة بخطّ أحمر وجميل. »فليكن القضاء مستقلاّ وسيجد كلّ الدّنيا إلى جانبه لو حاولوا النّيل منه. وفي مقدّمة الدّنيا لسان الدّفاع بطبيعة الحال«. هكذا نادى عميد المحامين الأستاذ الأزهر القروي الشّابي محدثا موجة عارمة من التصفيق والتأييد. وعلى نفس هذا المعنى تقريبا أكّد الأستاذ الفاضل الغدامسي الذي أبرز باسم جمعيّة المحامين الشبّان مدى ارتباط مبدإ حريّة الدّفاع بمبدإ استقلال القضاء. ثمّ جاءت تدخلات القضاة أنفسهم فكانت كالبحر مصطخبة أحيانًا وهادئة أحيانا أخرى. لا أبالغ لو قلت إنّه تملكني ما يشبه الذّهول خلال بعض فترات المؤتمر وكان يتعيّن عليّ خلالها أن أشدّد من انتباهي حتّى لا تذوب الفواصل بين الحلم والواقع. فلقد كانت بعض التصريحات تضفي على سامعها نشوة غريبة وتستلّ من بين كفّيه تصفيقا حارّا وصادقا. وكانت هناك قوّة جديدة تنبعث للوجود أمام الأعين، وهي قوّة قوم يجتمعون لأوّل مرّة يشعرون أنّهم لم يعودوا أعوادا متفرّقة يسهل كسرها وإنّما حزمة تستعصي على أعدائها (العبارة لأحد المتدخلين). أليست قمّة القوّة هي نقد الذّات. والكشف عن موضع الدّاء وتقديم الدّواء؟ لقد كان القضاة قادرين على كلّ ذلك في نفس الوقت. ومن باب النقد الذّاتي هذه الصّرخة لأحد القضاة الذي أكّد: »بكامل الصّراحة أقول إنّ قضاءنا غير مستقلّ على العموم. فمن منّا لم يقع التدخل في قضائه بصورة أو بأخرى من طرف أصحاب الجاه حتّى إنّه بإمكان الانسان أن يؤكّد أنّ القضاء أصبح لا يعمل الاّ ضدّ من يسمّونهم السّوقة وضعاف الحال من القوم وأنّ يده ليس بإمكانها أن تَطال ذوي الجاه والسلطان إلاّ في بعض المناسبات«. ثمّ أليس من باب الكشف عن مواطن الدّاء الاشارة إلى هذه »التدخلات« التي تصل إلى حدّ الضغط وكذلك الاشارة إلى المسبّبات التي تكمن وراءها واالمتمثلة في ضبابيّة وضعيّة القاضي من حيث أجرته وترقيته ونقلته وتنظيره في كلّ هذه الأبواب بالموظف العموميّ بينما يقتضي انتصابه للقضاء سدّ كلّ هذه المواطن البشريّة الضّعيفة وعدم تركها معرّضة للطعن في كلّ آونة وحين. وأخيرا أليس من باب القدرة على تقديم الحلول التأكيد بكلّ جلاء ووضوح على المبدإ الدّستوري الكبير الذي جاء به الفصل 65 من دستور 1959 الذي نصّ على أنّ »القضاة مستقلّون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون«؟ وكذلك المناداة بضرورة توفّر الشجاعة الأدبيّة لدى القاضي »لأنّ استقلال القضاء ينبع أوّلا وبالذّات من شخصيّة القاضي ومن قوّته الأدبيّة«. وكذلك المناداة بإلغاء التنظير مع الوظيفة العموميّة وبضرورة انتخاب القضاة لممثليهم داخل المجلس الأعلى للقضاء عوضًا عن اعتماد طريقة التعيين، وبوجوب رفض القضاة للامتيازات التي تمنحها إيّاهم السلطة مثل التّمديد في مدّة العمل للبعض بعد سنّ التقاعد لأنّ ذلك يمثّل مسّا من كرامة القاضي وإخضاعا لضميره أمام من له القدرة على منح الامتياز. وكذلك المناداة بإيجاد إطار موحّد يجمع شمل القضاء بعيدا عن صراع الأجيال مثلما هو الوضع الحاليّ المتمثّل في وجود وداديّة للقضاة وجمعيّة للقضاة الشّبان. وكذلك المناداة بخلق مؤسسة لمراقبة دستورية القوانين »لأنّنا اليوم نطبّق مكرهين بعض القوانين التي بقيت متأخّرة ومنعزلة عن الظروف الحاليّة للمجتمع التونسيّ«. ولا يمكن بطبيعة الحال أن نستعرض كلّ ما قيل في هذا المؤتمر ولكن أظنّ أنّنا عرضنا على الأقلّ الخطوط العامّة التي قادت جميع التدخلات. وبالإمكان بعد هذا العرض أن نؤكّد أنّ هذا المؤتمر كان مؤتمر عودة الوعي. فلقد كان بإمكان الانسان وهو يستمع إلى التدخلات أن يحسّ بأن المتدخلين يشعرون شعورًا عميقًا بأنّهم يكوّنون امتدادًا لعمر بن الخطاب ولصلاح الدّين بن جعفر. وليس من قبيل الصّدف أن يتردّد هذان الاسمان خلال المؤتمر. أمّا أوّلهما فهو غنّي عن كلّ تعريف. وأمّا ثانيهما فهو قاض تونسيّ معاصر رفض دوما كلّ تدخّل في قضائه ودافع عن استقلاله بكلّ حماس، وعاش فقيرًا. ومات كريمًا. ولقد كان من باب إكرامه مرّة أخرى أن تردّد اسمه خلال المؤتمر مثالاً للنزاهة والشجاعة. هذا هو تقريبا المؤتمر الأوّل للقضاة. ولكن يبدو أنّ هذه الانطباعات ستبقى منقوصة إذا لم نضف إليها تأكيد أغلب القضاة على الاحترام الذي يكنّونه لمهنة المحاماة ولحقّ الدّفاع وإصرارهم على ضرورة مواصلة التعاون بين السّلكين في نطاق الاحترام رغم محاولات يقوم بها البعض التفريق لخلق الشقاق والتّفرقة. فهنيئًا للقضاة بعيدهم، لأنّ مؤتمرهم كان عيدًا بأتمّ معنى الكلمة. وهنيئا لهم بنجاحهم في إبراز جانب من المطالب الديمقراطيّة لشعبهم والمتمثّل في نفض الغبار عن شعار استقلال القضاء. وهنيئا للمكتب التنفيذي لجمعيّة القضاة الشّبان بإحرازه على ثقة كلّ المؤتمرين وذلك بتعيين أعضائه لجنة متابعة لتطبيق لوائح ومقرّرات المؤتمر. وهنيئا لشعبنا بهذه النهضة المباركة للقضاة لأنّها تشكّل رغم بدايتها فأل خير بالنسبة إلى المستقبل.