تطرح كتابات الكاتب والفيلسوف الفرنسي الراحل روجي غارودي، من حيث منهجها، نقدا كبيرا للدين، وتتجه في كنهها نحو قراءات متعددة للتاريخ في أي من سياقاته الفكرية المفكر الذي رحل، عن سن تناهز الثامنة والتسعين، والذي كان كاتبا بتوجهات ماركسية من حيث اعتمادها على منهج النقد اللاذع، لم يكن مثال قارئ عادي للتاريخ، بل كان فيلسوفا في تناوله لسيرورة الأحداث التي تناولها التاريخ كفاعل في الثقافة الإنسانية. أمس، ومع إعلان وفاته في باريس، لم تركز وسائل الإعلام ووكالات الأنباء، وخاصة العربية منها، إلا على أنه كاتب فرنسي شكك في عدد قتلى «الهولوكوست» من اليهود (المحرقة النازية التي اقترفها هتلر في حق اليهود وغيرهم إبان الحرب العالمية الثانية). غارودي قد يكون ذلك الفيلسوف الذي خرج عن هذا النمط الفكري البائس الذي قدمته به وسائل الإعلام، إذ أنه ركز على إيجاد الحكمة انطلاقا من تفكيره في معرفة الإنسان، وماهية الإنسانية، ليتوجه للبحث عن معنى الثقافة الإنسانية غارودي في كتاباته، قد يكون قريبا -في بعض الأحيان- من طريقة تفكير الكاتب الأمريكي (والخارج عن سرب المفكرين الأمريكيين) نعوم تشومسكي، من حيث اسلوب كتاباته السلس والحامل لقليل من الهزل والجد، لكنه مع ذلك طرح كثيرا من الإشكاليات الفلسفية والمتعلقة خاصة بالسياسة في العالم (نقده اللاذع للاجتياح السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا وطرده من الحزب الشيوعي الفرنسي)، وكذلك لأنه مازج في حياته بين التفكير والإعتقاد وممارسة ما يعتقده ويقنع قريحته كفيلسوف ناقد. عرف عنه إشهاره لإسلامه في بدايات الثمانينات، لكنه قبل أن يصل إلى تلك المرحلة مر بمحطات دينية كثيرة، خرج من المذهب الذي رباه والداه عليه وهو «المسيحية الكاثوليكية» لينطلق نحو البروتستانتية التي منحته ارتياحا فكريا أكبر في تعامله مع النقد الديني وجميع المكونات الثقافية للحياة، وفي علاقته مع الإلاه. لقد اتجه غارودي في حياته الفكرية نحو التفكير في دراسة العلاقة بين الدين وماهيته وتأثيره على الثقافة ، فكان يبحث عن الدين كمحرك للثقافة لا كمكبل لها (ضرب الماركسية في صميمها ومقولة «الدين أفيون الشعوب»)، وليصل في خلاصة أخيرة بعد عناء من سنوات عديدة من التفكير إلى طرح الأسئلة الناقدة ومحاولات إيجاد أجوبة شافية عليها، ودراسات لتاريخ الثقافة وواقعيتها وسيرورتها الزمنية، ليصل إلى أن «الديانات السماوية أتت فعلا لتعبر عن ثقافة انسانية» شاملة لكل الإنسانية. قراءات غارودي للدين والثقافة قادته مباشرة للتفكير والنظر بنقدية إلى التاريخ لكن هذه المرة كفعل سياسي، ووجد أن في «التاريخ أساطير تسيطر على الواقع الحالي»، انطلق من هنا في قراءة تاريخ اليهود من زاوية نظر تاريخية سياسية، حيث انتهج السياسة كمعيار عقلي لقراءة مجرياته بعيدا عن خيال المؤرخين، لينتهي إلى معرفة واقع مرير مرر مشروعا سيطر على خريطة الصراع في العالم في التاريخ الحديث، إنها واقع «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» وهو كتاب كان وراءه لغط كبير عند صدوره في فرنسا سنة 1996. لقد قام غارودي في هذه «الرائعة» بتحريك التاريخ من جذوره كواقع متفق عليه، صفاه من «المغالطات اللاواقعية»، وسلط عليها ضوء العقل، وليظهر كيف استعملها الإسرائيليون لترجمتها إلى مبادئ فلسفة قائمة على العنصرية، إنها «الصهيونية. أساطير الصهاينة انتقدها غارودي في أركانها المبنية الكبرى، فلسطين الأرض الموعودة، واليهود شعب الله المختار، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، «الهولوكوست كرافعة ايديولوجية للبحث عن وطن وتكفير الذنب، والفرق بين اليهودية كعقيدة دينية وبعدها عن «لاواقعية الصهيونية». إن المنهج النقدي الذي استعمله غارودي هو الذي قاده في الأخير لضرب تلك «الأساطير الصهيونية» من هنا فهم غارودي من أين يقارع الصهاينة ويحاربهم في فكرهم، لقد اعتمد على العقل لضرب الأسطورة، ولم يعتمد على الأسطورة لضرب الأسطورة، لقد كان غارودي من أهم مفكري العصر الحديث، بفقدانه نكون قد فقدنا عقلا رائعا أثر في الفكر الإنساني الحديث.