قد لا يكون فتحا التطرّقُ للبحث في علاقة الدّين بالفرد من جهةٍ و بالمجموعة من جهة أخرى، بيد أنّ هذه الدراسةَ النقديّة تستمدُّ حداثَتها من وجهة النّظر المقارنتيّة التي تسعى لإنشائها. أمّا حين كانت المقارنةُ تستدعي تحليلا دقيقا ومفصلاً لكلٍ من مراكز السلبِ و الإيجاب للاعتقاد في الدّين سواءً بكونه تجربةً شخصيّةً ذاتيةً أو جماعية موحَّدةً، فإنّنا لا نهدف هنا لدراسة هذه المراكز داخل جسد الدين ذاته الذي تحدده نصوصه المتواترة من قرآن و سنة، بل نهدف لدراسة التديّن بكونه ظاهرةً اجتماعيةً ذات انعكاسٍ مباشر على طريقة تشكّلِ بنيةِ وتاريخِ مجتمع بعينه. إنّ المتأمّل في مؤلّفات علماء الاجتماع أو الأنثروبولوجيا، يكتشف أن التناقضَ الظاهرَ بين القول بفرديةِ الاعتقاد و القول بعموميّته ، ليس سوى خللٍ في محاولة التوفيق بين الأطروحتين. فكيف يمكن للدين أن يمثل علاقةً فردية، شخصيةً، موغِلةً في ذاتيّتها بين الإنسان و المقدس، و مؤسّسةً اجتماعية، عامة، جامعة، في آن؟ ما هي حدود و آثار مؤسّسة الاعتقاد الجماعي؟ و كيف يُمكن التأصيلُ لعقيدة جامعة، مع الحفاظ على خصوصية الفرد ؟ منذ البداية يكشف المبحث عن درجة تعقيد عالية. ذلك أن اعتمادَ نظرياتٍ معينة مندرجةٍ تحت عِلْم واحد يختصّ بالبحث في مثل هذه الإشكالات، سيفضي بالضرورة إلى نتائجَ قاصرة عن تكوين مشهد شامل كامل للدين بجميع تصوّراته و حيثيّاته. لذا لم يكن ثمةَ بُدّ من زيارة مجموعة من العلوم الإنسانيّة التي يترابط بعضها بالبعض الآخر للإحاطة بكل تفاصيل عمليّة الاعتقاد، و لفكّ شفرة رموزها المعقّدة. رغم شدّة تبايُنها أحيانا، تبقى لجميع الأديانِ العديدُ من الخاصيّاتِ المشتركة. و بما أن البنيةَ كما يعرّفها البريطاني رادْكليف براوْن هي ما يبقى ثابتا بعد أن تتغير العناصر، فانّ هذه الخاصيّات هي التي تشكّل بنيةَ الدين بصفةٍ عامّة. إنّها كُنهُه و ماهيَّتُه. سواءً داخل العِلْم ذاته أي علم الاجتماع أو حتى بتضافر مجموعة من علوم أخرى ذات صلة به، كانت المواقف من الدّين على ثلاثة: فثمّة من قال بأنّ الدِّين على إطْلاقه جماعيّ بالضّرورة، وهو بالتالي مؤسّسة اجتماعيّة قائمة بذاتها، لها تأثيرها المباشر على مجموعة الأفراد المكوّنين لها. و ثمّة من أرجأ منبع الدّين إلى ذات الفرد، واعتبر أنّ الاعتقادَ هو تجربةٌ شخصيةٌ تُفرَض على كلّ فرد بصفة مستقلّةٍ معزولةٍ عن الآخر، بالرغم من فرضيّةِ تشابُهِ الظّروف التي أسّست لهذه التجربة. أي أن الظرف الدافع للتجربة، يمكن أن يكون عاماّ، مشتركا بين مجموعة من الأفراد، غير أن التجربة الناتجة عنه، فرديّة، خاصّة، و ذاتيّة بالضّرورة. أمّا الصنف الثالث فقد اتّخذ موضعا وسطا، فاعتبر أن الحاجة إلى الدّين، و من ثمّ الاعتقاد فيه، هما عبارة عن مخاض فردي، ذاتي، في مرحلة أولى، يتحوّل بفعل علاقة التأثير والتأثّر بين الأفراد إلى ظاهرةٍ اجتماعيّة، أي إلى مؤسّسةٍ عامّةٍ مشتركة. من أهمّ المؤسّسين لأولى هذه الاِتجاهات، الفرنسي ايميل دوركايم. يتّضح ذلك من خلال تعريفه للدّين على أنّه «منظومة من العقائد و الممارسات (المرتبطة بمضامين مقدّسة، منفصلة، ومفارقة) التي توحّد داخل مجتمع واحد كل المؤمنين بها». إنّ تفكيكا أوّليا لمراحل عملية الاِعتقاد يكشف أنّ النازع الدّيني في مرحلة تكونّه، ليس سوى الشعور بالقوة الناتجة عن تجمّع عدد كبير من الأفراد و عن ترابطهم المعنويّ. يلعب هذا النازع الجماعي ذاته المتمثل في العلاقة الوثيقة التي تربط فردا بآخر، ثلاثة أدوار رئيسية في الوقت نفسه. انه يرسّخ عند كل فرد الوعي بهذه القوة الجماعيّة، و بالتالي يخلطها بما هو ذاتي، حتى يصبح الاعتقاد مزيجا بين ما هو جماعي، و هو أصل الاعتقاد، و ما هو ذاتي، و هو الناتج عنه. بناء على ذلك هو يجعل المجتمع يعي بذاته، بكل ما هو مشترك أو فردي فيه. ثم انه يضمن استمرارية كل هذه الروابط بين أفراد المجتمع، و يولّد، في النهاية، عند كل واحد منهم الرغبة في الولوج داخل هذه المنظومة، و في الامتثال لقوانينها. إن هذه المنظومة تستحيل عنده شكلا أوحد لتواجده، و هو لا يمكن أن يوجد إلا فيها، وبها. إنّها تصبح بعد كل هذا المخاض- سبب وغاية وجوده. لذلك يشعر كل فرد مندرج داخل هذه المنظومة، التي أصبحت الآن حقيقة باسم شش . يتمثّلها، هو في الحقيقة بصدد تمثّل أصوله، منبع وجوده، تاريخه، باختصار هو يتمثّل ذاته التي ليست في الحقيقة سوى موضوع لهذه المنظومة. هذه الحاجة لتمثّل هذه العلاقات المعقّدة، و المجرّدة، تدفعه لتشكيل إمّا صورة حقيقيّة و محسوسة لها، إمّا صورة رمزية دالّة عليها. و من هنا جاءت فكرة تمثّل الإله، إمّا بتشكيل صورة ذهنية له، إمّا باتخاذ رمز حسيّ يمثّله و يدلّ عليه. و بما أن هذا الإله هو من الآن فصاعدا سبب و غاية الوجود بالنسبة للفرد، - كما سبق ذكره- فاِنه بالضرورة سابق له، أكثر قوّة و تمكّنا منه... اِنّه، من الآن فصاعدا، مقدّسٌ. كما يأخذ هذا المقدّس، في أغلب الأحيان، شكلا اعتباطيّا، أي أنه يمكن لهذه الرغبة الجامحة في تمثّل ما صار الآن إلها، أن تصبّ على أي شيء ملموس، كالطوطم، أو فصيلة ما من الحيوانات، أو الكواكب، و غيرها. بيد أن المقدًّم في التقديس دوما هو المتعارف عليه من قبل المجتمع، ، أي أنه يعطي لإلهه الجديد شكل جسم معروف عنده، يدركه، و يعرف خاصيّاته الطبيعيّة جيّدا. من ذلك أن عرب ما قبل الإسلام، قد اختاروا الأصنام لاتخاذها آلهة، أو للاِستدلال بها عليها، و ذلك لأسباب عديدة من شأنها إثباتُ ما ذهبنا إليه. أوّلا كانت العرب تتمثّل مقدّسها في الكواكب و النّجوم، و ذلك لمعرفتها الجيّدة بها نظرا لتقاليدهم المتوارثة في علم الفلك و الذي كان يسمّى عندهم بِ» علم الأنوار «. من ذلك أنهم كانوا أكثر ما يعبدون كوكب الزهرة. غير أن عبادة هذا الكوكب لم تكن لتشبع شوقهم إلى اِله ملموس، ذلك أن الزهرة لم يكن يظهر للعين المجرّدة إلاّ مرّات معدودة في السنة. فلمّا جاء عمرو بن لحيّ من الشام بالأصنام قصد تقليدهم في عبادتها وجد العربُ في ذلك طريقةً مُثلى لِجعْل كوكبِهم المعبودِ أكثر قربا و أكثر حسيّة. فاستدلّوا على الزّهرة بصنم «العزّى» ،وعلى الشّمس بصنم «اللّات»، و على القمر بصنم «ود» . و قد تطرّق القرآن الكريم إلى هذه القضايا ليبيّن أن هذه الآلهة ليست في الحقيقة سوى توهّم من قِبَل البشر، ازدادت رسوخا بفعل الوراثة: « إن هي إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ا .