يبقى للرقم في جميع العمليات الحسابية رمزية رياضية ثابتة وما أن ينتقل إلى مجال من مجالات علوم الإحصاء يتحوّل بالضرورة إلى مؤشر متغيّر الدّلالات والقراءات بتغيّر المناهج أو التوظيفات المتعدّدة...إنّها لعبة الأرقام الكبرى بلغة السياسة وتقنية سبر الآراء بمصطلحات علم الإحصاء. قبل انتخابات 23 أكتوبر وجد التونسي نفسه دون سابق إنذار وجها لوجه أمام تسونامى من الأرقام والجداول والرسوم البيانية للأحجام الانتخابية المفترضة للفاعلين السياسيين، كمّ هائل من المعطيات تمّ تسويقها كحقائق يقينية، نهائية لا يرقى لها الشك باعتبار إنّها استوت بشكل جيّد داخل أفران مؤسسات متخصّصة وبأفضل الخبرات والمناهج!! حين دقت ساعة الحسم اكتشف الجميع أن التوقعات كانت في جزء كبير منها مجانبة تماما للحقيقة بفارق سنوات ضوئية!! أبرزها على الإطلاق تسلّل مزلزل للعريضة الشعبية داخل المشهد السياسي، تمركز مفاجئ في المرتبة الثانية للمؤتمر من أجل الجمهورية، تقهقر للحزب الديمقراطي التقدمي المرشح الأبرز في جميع استطلاعات الرأي لمنافسة حركة النهضة، فتدحرج انتخابي كبير للقطب الحداثى ...هل يمكن اعتبار كل هذه اللّخبطة الاستطلاعية والمتواصلة إلى اليوم من باب سوء استخدام مؤسسات سبر الآراء للمناهج الإحصائية بشكل ناجع ؟ أم أن تعدّد الزيجات بعالم السياسية حجبت عنها رؤية هلال الاستطلاع ؟ في حقيقة الأمر تعود عملية جمع البيانات والمسوحات الإحصائية إلى الأزمنة الغابرة غير أنّه منذ منتصف الثلاثينات من القرن الماضي اتخذت تقنية سبر الآراء منحي جديد باقتحامها الميدان السياسي لأول مرة على يد الصحفي الأمريكي جورج غالوب بعد أن كانت منحصرة في مجال الأعمال على وجه الخصوص. وقياسا بنجاحها الباهر في رسم استراتيجيات متطورة للمؤسسات الاقتصادية في علاقة مباشرة بالتصرف الأنجع لمواردها البشرية وتحقيق تموقع أفضل داخل محيطها التنافسي، وباتساع مساحة الديمقراطية في العالم وما رافقه من ظهور مجتمع مدني قوى ورأي عام فاعل ارتفعت أسهم هذه المؤسسات لتتحوّل تقنية الاستطلاع من مجرد آلية لتسويق المنتجات إلى محرار يساعد صانعي القرار على رسم السياسات والخيارات الكبرى ، فمن خلالها أصبح من الممكن للسياسي تحقيق تواصل أفضل مع ناخبيه ومؤيديه المحتملين وتفاعل أكبر مع مفردات المشهد وتعقيداته ، إلاّ أن هذا المحرار عرف العديد من التوظيفات السياسوية في هذا الاتجاه أو ذاك خاصة أثناء الأوضاع الانتقالية التي تمرّ بها الديمقراطيات الناشئة... الاستطلاع الجيّد هو الذي تمّ تصويبه بشكل جيّد... مقولة - متداولة في أوساط سبر الآراء - قد تكون كلمة السرّ القادرة على فتح الصندوق الأسود لعالم الاستطلاع وما يطرحه في العمق من إشكالات متعددة الأبعاد منها الألسني والمنهجي والحقوقي والأخلاقى... نحاول عرضها بصيغ استبيانية مفتوحة تضمن حق الجميع في فك شفرتها بمداخل ومقاربات مختلفة لتكون بمثابة الاستبيان داخل الاستبيان أو قل في مقارعة منظومة الاستطلاع الحالية...
1- هل يوجد اليوم رأي عام سياسي ناضج ومتطور يعكس ما يدور في تفكير العموم حول مسائل سياسية محددة ؟ أم أنه لازال في طور التشكّل ؟ أم أنه مجرد بناء هلامي من صنع النخب ومجموعات الضغط للسيطرة على الشأن العام ؟
2- هل نحن على استعداد للاستمرار في منح الثقة لمؤسسات سبر الآراء الحالية؟ أم أنّ المرحلة الانتقالية الراهنة تقتضى بعث مراكز بحث ومعاهد مستقلة متخصّصة في علم الاجتماع السياسي ؟
3 - ما هي الضمانات الحقيقية للتأكد من صدقية نتائج الاستطلاع في جميع مراحلها : - من اختيار العينة ومدى استجابتها لشروط التمثيلية للفئة المستهدفة بالبحث... - فصياغة الاستبيان الذي تختلف مقارباته من أسئلة إيحائية مغلقة إلى أخرى مفتوحة متعددة الفرضيات... - فالقيام بالاستبيان الميداني المباشر أو عن بعد -بالإرساليات القصيرة أو عبر مختلف المواقع الالكترونية- وما تطرحه من إشكالات تتعلق بتوقيت الاستبيان وجدية الباحث والمستجوب وآليّات الرقابة والتثبت المعتمدة وأخرى تتّصل بمدى التحقق من درجة السلامة العالية المفترضة للمنظومات المعلوماتية في مواجهة مخاطر التحايل والغش الالكتروني... - إلى معالجة المعطيات وتصويبها وما تعنيه من استخدام لمقاربات وقواعد رياضية محل جدل ؟؟
4- إلى أيّ مدى تساهم عملية وضع مدوّنة لأخلاقيات ومعايير ممارسة مهنة الاستطلاع في تنظيم القطاع وتحييده عن التجاذبات؟ في انتظار أن تنقضي مدّة العدّة، وأن يستعيد الرقم بريقه وعافيته الرمزية، نستحضر ما ردّده بيتاغور مرارا وتكرار منذ قرون عديدة خلت : « الأرقام جوهر الأشياء» فهل من مجيب ؟