مثلت العودة الأولى للباجي قائد السبسي لمسرح السياسة بعد سقوط نظام بن علي بأشهر قليلة، حدثا سياسيا بارزا، ومهمّا للغاية. فالرجل الذي كان محسوبا من بين الذين هجروا عالم السياسة والى الأبد، ظهر فجأة وبشابيّة أدهشت أنصاره وخصومه في ذات الوقت، وبصفاء ذهنيّ! عجيب أعادت الطمأنينة لأولئك الذين يرعبهم زمن الشيخوخة المعتم والقاسي. وقد تجلّت قدرة السبسي وحنكته السياسية في حسن تدبيره لشؤون الدولة في أوقات عصيبة، سوداء موسومة بالانفلاتات الأمنية، وبالصراعات العقائدية والعشائرية، وبالاحتجاجات المشطة وبالاعتصامات في ما أصبح يسمى ب«اعتصام القصبة1» ، اعتصام القصبة 2» وببروز العنف السلفيّ الذي كان نائما على مدى سنوات طويلة، وبمخاطر جسيمة أخرى. غير أن السبسي استطاع اعتمادا على الخبرة التي اكتسبها في الزمن البورقيبي، أن يواجه كل تلك الأوضاع الصعبة بهدوء وبصلابة أعادت للتونسيين الذين كانوا يعيشون مخاوف يومية، وحيرة أمام مستقبل لم يعد واضح الملامح، الأمل في الخلاص من الأزمات التي تعاقبت على البلاد في تلك الفترة الحرجة من تاريخها والتي لم تشهد مثيلا لها منذ الاستقلال. وقد دلّ حضور السبسي قمة الدول الثمانية الكبار والمقابلة التي حظي بها من قبل الرئيس أوباما، على ذكاء الرجل ودهائه ودرايته بخفايا الديبلوماسية، ومعرفته للملفات السياسية العالمية. ولعل من أفضل ما قام به السبسي هو إنجاح انتخابات 23 أكتوبر 2011 والتي سادها الأمن والأمان. وبشكل حضاري خرج من قصر القصبة مصحوبا بوزرائه ليسلّم مفاتيح الدولة لما أصبح يسمى ب«حكومة الترويكا» وربما يكون السبسي قد ارتكب أخطاء وهو على رأس الوزارة الأولى غير أن تلك الأخطاء تغفر له مقابل النجاحات التي حققها. وكان واضحا أن السبسي لن يهجر عالم السياسة. فالتصريحات التي دأب على الإدلاء بها لوسائل الإعلام والمواقف التي كان يتخذها بين وقت وآخر خصوصا عند احتداد الأزمات، والاجتماع الشعبي الكبير الذي انتظم بحضوره في المنستير يوم 20 مارس الماضي.. كل هذا دلّ على أنه لن يترك تونس التي خدمها بإخلاص ووفاء قبل الاستقلال وبعده، في مهبّ الريح كما هو حالها راهنا. وها هو يعود فعلا بحزب وببرنامج سياسي حدّد الكثير من ملامحه في الخطاب الذي ألقاه يوم 16 ماي 2012 . لكن ما هي هذه الملامح؟ تأتي مبادرة السبسي في فترة من الفترات الحرجة الأخرى التي أعقبت سقوط نظام بن علي، فترة تتميز بالعنف والتطرف الأعمى وبالإقصاء والتهميش وبمخاطر أخرى تهدّد الوحدة الوطنية. والسبب في هذا كله هو فشل حكومة النهضة في إدارة شؤون البلاد. وهذا الفشل يشمل جميع المستويات تقريبا. ففي غياب برنامج اقتصادي واجتماعي وثقافي واضح عمدت الحكومة وتحديدا حركة النهضة التي هي الفاعلة الأساسية في هذه الحكومة الى تسيير البلاد بحسب المنطق الشعبوي، ذلك المنطق الذي يهيّج الغرائز البدائية ويستنفر الجموع الغفيرة لا من أجل البناء والإصلاح بل من أجل الهدم والتخريب ونشر الفتنة بين أبناء الوطن الواحد. واستنادا على أن الإسلام في خطر ، ركزت النهضة من بداية نشاطها السياسي العلني على أدلجة الدين لجعله وسيلة للدعاية لأفكارها وأطروحاتها. وهي لم تكتف في ذلك بما عندها من أنصار متوزعين في كل مساجد البلاد بل فتحت الأبواب واسعة أمام دعاة مشارقة معروفين بتطرفهم وبتزمتهم، وبتحريضهم على العنف والإرهاب لمساعدتها على ترسيخ ما هي تدعو إليه في عقول التونسيين والتونسيات . كما سمحت بتنظيم دورات تكوينية يشرف عليها شيوخ سعوديون وهّابيون وفيها يتم «غسل أدمغة» الشبان لتقبّل الدعوة الوهابية التي كان شيوخ جامع الزيتونة قد رفضوها رفضا قاطعا عند ظهورها في القرن الثامن عشر! وبدعوى أنهم «إخوة لنا في الدين وفي العقيدة» وأنهم لا يدعون الى التطرف والعنف، بل الى «ثقافة أخرى» سمح للسلفيين بتحدي القوانين، وبالدوس العلني على هيبة الدولة وبتنظيم تظاهرات لاستعراض القوة، والتهجم على المبدعين والفنانين والمخالفين لهم في الرأي. كما سمح لهم بإطلاق دعوات لقتل وهدر دم البعض من هؤلاء. ولم يكتفوا بذلك بل عمدوا الى تخريب مواقع أثرية بدعوى أنها «وثنية» . وهو ما فعلته حركة «طالبان» في أفغانستان. ينضاف إلى كل هذا «غزوهم» لمدينة القيروان بهدف جعلها «عاصمة وقاعدة» لهم وتعطليهم للدروس في الجامعات، ومحاولاتهم المتكررة لزرع الفتنة بتقسيم التونسيين الى «مؤمنين» و«كفّار» مثلما تفعل حركة النهضة في العلن ...أحيانا وفي الخفاء مرة أخرى. في هذا الجو المشحون بالتوتر والعنف تأتي مبادرة السبسي للتأكيد على الوحدة الوطنية التي مكنتنا من الحصول على استقلالنا وبناء الجمهورية وتحرير المرأة من قيود الماضي، وتعميم التعليم وترسيخ أسس الحداثة وقيمها التي ناضلت من أجلها النخب التونسية منذ خير الدين باشا وحتى عصرنا الحاضر. من جانب آخر، تهدف المبادرة المذكورة الى إقناع حركات يسارية تقسّم التونسيين الى «تقدميّين» ورجعيّين» بضرورة العمل على لمّ شمل التونسيين لموجهة المخاطر الراهنة حتى لا تسقط البلاد في الصراعات العقائدية والإديولوجية القاتلة والمدمرة. وتتنزّل مبادرة السبسي في إطار إقناع الجميع ، الأنصار كما الخصوم، بأنه لا يمكن إنجاح المسار الديمقراطي الذي برز للوجود بعد سقوط نظام بن علي إلا بالتوافق والتآزر والتعاضد في ظل وحدة وطنية صماء لا تفل فيها مؤامرات الساعين الى تخريبها وتمزيقها. هذا المنهج العقلاني في التفكير وفي العمل والذي تميزت به مبادرة السبسي الأخيرة يمكن أن يساعد تونس على الحفاظ على روحها المتوسطية وعلى انفتاحها على العالم، وعلى وسطيتها التي تضمن لها تماسك مجتمعها بعيدا عن العنف والتشنج والشعبوية الفجّة والبدائية. كما أن هذا المنهج يعيد الأمن والطمأنينة للتونسيين ويجعلهم ينظرون الى المستقبل بتفاؤل وأمل بتحقق «ربيع عربي»! حقيقي.