"كل ميزة تمتاز بها المرأة لها علاقة بوظيفتها الجنسية أو هي نتيجة لهذه الوظيفة والوظيفة الجنسية شيء أساسي بالنسبة للمرأة بينما هي عرض بالنسبة للرجل، وهذه الوظيفة هي أصل الطابع الأنثوي وكل صفة أخرى ثانوية تتغير بتغير الزي مهما بدت أساسية". إنها فقرة وردت في كتاب السيد راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة "المرأة بين القرآن و واقع المسلمين". هذا التصور ل"مفهوم" المرأة الذي يحصر وظيفتها في الحياة في "أنثويتها" يتناقض مع ما قاله السيد راشد الغنوشي يوم 11 ماي 2012 (وحزبه متربع على سدة الحكم) في لقاء حواري نظمته مؤسسة السلام الأمريكية في مركز الدراسات المغاربية بالعاصمة إذ أكد في اللقاء المذكور تمسكه بمجلة الأحوال الشخصية وجميع مكاسب المرأة التونسية وأشار إلى أن "حركة النهضة لم تعترض على مبدإ المناصفة خلال الانتخابات الماضية وأن هناك 42 امرأة "نهضاوية" في المجلس التأسيسي من مجموع 49 امرأة وان المرأة هي.. نصف المجتمع إن لم تكن اكثر "أي ان هذا الحديث نزع عن المرأة جانبها الغريزي الحيواني الصرف وأعاد لها انسانيتها المفقودة في الكتاب المذكور. و بين هذا الحديث وذاك مرت دون شك حوالي ثلاثين سنة أو أكثر، فأنا لا علم لي بتاريخ صدور الكتاب المذكور، إلا أنه حدثت أشياء عديدة في حياة السيد الغنوشي، السجن و المهجر ثم صعود حزبه إلى الحكم. والمهجر هو دون شك لحظة فارقة في حياة الغنوشي، زعيم النهضة، حيث لا مفر من الصدمة الحضارية في مثل هذه الحالة، وهي صدمة لا يمكن لها أن تكون إلا ايجابية. ففي أنجلترا كان "المسلمون" أي الحركات الإسلامية تنشط في "بلاد الكفر" وتعقد مؤتمراتها وندواتها دون شروط أو موانع تذكر، بل كانت الدولة البريطانية تمول أحيانا جانبا من هذه الأنشطة بأموال "دافعي الضرائب" وهذا أمر لا يمكن تصوره والى اليوم، في أي بلد اسلامي. وكان "الاسلاميون" أيضا يتلقون دعما ماليا هاما من السلطات العمومية لبناء المساجد في المدن البريطانية حتى أن مظاهرة قامت في إحدى المدن في اواخر التسعينات احتجاجا على تخصيص مبلغ مالي هام من ميزانية البلدية لبناء مسجد بينما ألغت البلدية مشروعا سكنيا اجتماعيا متعللة بقلة الموارد!! بين مناضلي الداخل والخارج لقد تم تهجير الآلاف من قياديي وأتباع حركة النهضة منذ بداية التسعينات واحتضنت الغالبية العظمى منهم الدول الأوروبية الديمقراطية بينما تفرق عدد قليل منهم بين دول الخليج وغيرها من الدول أما الآلاف الذين بقوا في تونس فكان نصيبهم التعذيب والسجن والهرسلة المتواصلة لعائلاتهم وجيرانهم وأصدقائهم كما تعرض عدد لا يستهان به من "مناضلي الداخل" المسجونين إلى السجن الانفرادي لسنوات طويلة، وهي تجربة رهيبة لها آثار مدمرة على نفسية كل من أخضع لها. وإثر الثورة وإخلاء السجون من معتقليها السياسيين وأغلبهم من النهضة وعودة المهجرين فإن النهضة وجدت نفسها أمام تجاذبات عميقة بين تيارين رئيسيين متناقضين يمثل أحدهما مناضلو الداخل فيما يمثل الآخر مناضلو المهجر أساسا سيدعى مؤتمرها اليوم دون شك إلى حسم تناقضاتهما وتغليب اتجاه منهما على الآخر. الأول هو الاتجاه السياسي الدعوي الذي "يتزعمه" ان صح التعبير الصادق شورو الذي قضى في السجن حوالي عقدين من الزمان منها 16 سنة كاملة في السجن الانفرادي والذي يرى أن الدين يشمل كل أوجه حياة الانسان العامة والخاصة ويعلن رفضه للفصل بين الدين والدولة كما يحسب على هذا التيار أيضا الحبيب اللوز بل وهناك من يصنف في خانته الوزير الاول حمادي الجبالي أيضا. أما الاتجاه أو بالأحرى الجناح الثاني فمن وجوهه البارزة سمير ديلو وزير حقوق الانسان والعدالة الانتقالية ونورالدين البحيري وزير العدل ورغم أنها لم يهجّرا إلى الخارج إلا أن إقامتهما في السجن كانت قصيرة جدا ويمكن وصفه ب"الحمائم" لانه يرفض رفضا قاطعا الأسلمة الفوقية للمجتمع وقد نجح السيد راشد الغنوشي إلى حد الآن إلى لعب دور الحكم والمهديء بين التيارين وبدا دوره في التهدئة واضحا جليا بمناسبة الجدل حول "اقحام" الشريعة الاسلامية في الدستور ولكن السؤال الذي يطرح نفسه حاليا هو إلى متى سينجح الرئيس الحالي للحركة في لعب هذا الدور في ظل تناقض الرؤى وضغط القواعد في هذا الاتجاه او ذاك؟ و إن مؤتمر الحركة الذي تبدأ أشغاله اليوم محرار حقيقي لمدى عمق هذا الخلاف، وهل أنه يمثل في واقع الامر شرخا، ولمدى قدرة الحركة على التعامل معه واحتوائه أي "هضمه" أو الحسم فيه في هذا الاتجاه أو ذاك مع ما قد يمثله ذلك من تهديد جدي لتماسكها واشعاعها. محك العلنية انعقد في نطاق السرية المطلقة المؤتمر التأسيسي لحركة الاتجاه الاسلامي التي أخذت في ما بعد اسم النهضة سنة 1979 أما تاريخ بعث الحزب فيعود إلى سنة 1981 ومؤتمر اليوم، وهو التاسع في تاريخ الحركة هو الأول الذي ينعقد في العلن بعد 24 عاما من السرية على امتداد 3 أيام (12، 13 و14 جويلية الجاري) وسيشارك فيه 1130 نائبا اضافة الى الاطارات ويتوقع أن يحضره حوالي 500 صحفي ومائتا شخصية عربية ودولية. ورغم أن السيد راشد الغنوشي (72 عاما) كان أعلن عقب عودته إلى تونس إثر الثورة عن رغبته في التخلي عن زعامة الحركة والتفرغ للنشاط العلمي الفكري فإنه يتوقع أن يتم التمسك به وتثبيته على رأس الحركة لأربع سنوات أخرى. البلد المخبر إن الظرف الذي ينعقد فيه هذا المؤتمر هو قطعا ظرف استثنائي بكل المعايير والتحديات المطروحة عليه أو بالأحرى الرهانات كبيرة جدا. فبلادنا التي تزعمت الثورات العربية ومثلت نبراسا لها، تجد نفسها حاليا في موقع "المخبر" كما تجد نفسها أمام تحدي تكذيب المقولة التي روجت لها الدكتاتوريات في العالم العربي الإسلامي على امتداد عقود وحتى بعض المنظرين و"المفكرين" والتي مفادها عدم تلاؤم الإسلام مع الديمقراطية وعدم تقبّل مخزوننا الثقافي والفكري والتاريخي لل"مبادئ الكونية لحقوق الإنسان وسيادة القانون". وتحظى حركة النهضة تبعا لذلك بموقع "المحرار" لدحض هذه المقولة أو تأكيدها وإن خروج الحركة للعلن بعد عقود من السرية سيجعل الأطروحات التي سيتمخض عنها المؤتمر ملزمة لها، بحيث أنه لم يعد مسموحا لها بأي ازدواجية في الخطاب إذ أن الرأي العام الداخلي والخارجي وخصوصا شركاء بلادنا الأمريكيين والأوروبيين يتابعون باهتمام شديد مخاضنا العسير وخصوصا تجربة التعايش في الحكم بين حزب إسلامي وحزبين علمانيين يمثلون "الترويكا" الحالية فالتجربة التونسية الحالية التي وجدت النهضة نفسها تقود قاطرتها بحكم نتيجة صندوق الانتخاب من شأنها أن تمثل في صورة نجاحها قوة جذب لا يستهان بها في العالم العربي -كما ذكر السيد عبد الفتاح مورو- ولكن يخشى أيضا في صورة فشلها -لا قدر الله- أن تلعب الدور المعاكس. حسم أم تأجيل لئن أكد لطفي زيتون مستشار رئيس الحكومة أن المؤتمر لن يحمل مفاجآت كبيرة فإن عبد الحميد الجلاصي عضو المكتب التنفيذي أكد أن المؤتمر سيطرح تساؤلات من بنيها "كيف تقدم الحركة تصورها من أجل البناء وتحقيق أهداف الثورة" كما أنه سيجيب على تساؤلات مثل "كيف نحقق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وكيف ننقل الثورة من الشارع إلى المؤسسات". أما راشد الغنوشي فقد قال "إن المؤتمر يجب أن يكرس النهضة كحركة إسلامية معتدلة مفتوحة على مشاكل التونسيين وحاملة لمشروع إسلامي واعد بالأمل والانتعاش الاقتصادي". ولكن هذا "الكلام العام" لا يكشف في الواقع حقيقة التحديات المطروحة على المؤتمر وفي مقدمتها ضرورة بناء الحركة التي قامت في البداية على اساس دعوي صرف على أسس جديدة بما أنها أصبحت حزبا حقيقيا يخوض الانتخابات ويشارك حاليا في الحكم وله ارتباطات خارجية لابد أن يقرأ لها حسابا، وأيضا ضرورة التوجه أساسا أو إطلاقا نحو الشأن الداخلي في ما يخص الممارسة السياسية حتى يصبح قرارها في شؤوننا الداخلية مستقلا عن الحركات الاسلامية الاخرى التي ارتبطت بها في سنوات النضال ووجددت منها الدعم والمساندة إذ أن مثل هذه الارتباطات قد تصبح خطيرة عليها بحكم خصوصية مجتمعنا واعتداله مقارنة بعديد المجتمعات التي انبثقت منها الحركات الأخرى آنفا. أما التحديات الأخرى المطروحة على المؤتمر فهي كما ذكرنا آنفا الحسم في مسألة فصل النشاط الدعوي عن السياسي وضرورة تحديد مشروع "المجتمع الإسلامي" لتونس ما بعد الثورة والابتعاد به عن ذلك الذي وقعت المطالبة به في "البدايات" أي خلال فترة النضال لتصور مشروع جديد وتبنيه وهي -أي الحركة- في سدة الحكم ومحل أنظار ومراقبة ومساءلة المجتمع المدني وشركائنا الأوروبيين والأمريكيين. كما سيجد المؤتمر نفسه دون شك مدعوا لتقييم الأداء الحكومي وتجربة الترويكا وإن طبيعة القيادة الجديدة التي ستتمخض عن المؤتمر "صقورا" أم "حمائم" أم "بين بين" ستكشف الوزن الحقيقي للتيارات التي تشق النهضة وطبيعة توجهاتها المستقبلية هذا إذا لم يتم طبعا - وهذا أمر متوقع أيضا- إرجاء الحسم إلى ما بعد الاستحقاق الانتخابي القادم مخافة إضعاف الحركة وحتى انفجارها رغم أن هذا الأمر مستبعد جدا إلى حزبين أو أكثر.