تأليف الدكتور محسن عبد النّاظر تنشر «الصباح» طوال شهر الصيام المبارك فصول كتاب «النّظر الدقيق في سيرة الرّسول محمّد- صلّى الله عليه وسلّم من القرآن الكريم» الصّادر عن شركة المنى للنّشر لمؤلّفه الدكتور محسن عبد الناظر. والدكتور محسن عبد الناظر أستاذ متميز بجامعة الزيتونة وعضو المجلس الاسلامي الأعلى له عديد المؤلفات في السيرة والهدي النبوي.
«الصّباح» تشكر الدكتور محسن عبد الناظر باتاحته هذه الفرصة لقرائها لكي يطلعوا على قيمة أحدث مؤلفاته... الحلقة الرابعة عشرة تنظيم العلاقات بين سكان المدينة بعد الهجرة - من مبررات بقاء الرسول (ص) بقباء قبل دخوله المدينة، ذكر البحث حاجته عليه الصّلاة والسّلام الى مهلة يرتاح فيها من تعب السفر ويرتب اثناءها الاصول التعاقدية التي سيعرضها على سكان المدينة، ويتشاور معهم في بنودها حتى تصبح وثيقة يقبلها الجميع ويلتزمون بمضمونها. وثيقة المدينة أورد ابن هشام (ت.218) وغيره عن ابن اسحاق (ت.151) ان الرسول (ص) كتب كتابا بين المهاجرين والانصار، وادع فيه يهود، وعاهدهم، واقرّهم على دينهم. وأوردت نص الوثيقة مع دراستها كتب لمعاصرين، خاصة بعد ان حققها الدكتور محمد حميد الله الذي قدمها على انها اقدم دستور مسجل في العالم في مباحث دائرة المعارف بحيدر آباد سنة 1938 م ثم نشرها ضمن مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. دقق البحق النظر في الشبهات التي اثيرت حول صحة الوثيقة وبين انها ركزت على الجانب الشكلي دون ان تستكمل شروطه، واهملت المضمون وما فيه من اسس تتفق مع اصول الاسلام وسيرة الرسول (ص) لو فعلوا ذلك لابرزوا: - مافي شكل الوثيقة من دقة، حددت الاطراف الذين وقع بينهم التعاقد، فهم المسلمون من قريش، واهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، فهم يكونون «أمة واحدة من دون الناس» ثم ذكرت اليهود ومن حالفهم ثم عينت الافخاذ التي تنتمي الى كل قبيلة. واكد مضمونها ان كل سكان المدينة يكونون مجتمعا واحدا متعدد الاعراق والاديان، وان أمنه واحد، ويمكن ان يطلق عليه الامن الداخلي، او السيادة الداخلية الواجب على الجميع حمايتها من الخطر الخارجي المتمثل اساسا في عداء قريش وحلفائها. - ما في مضمونها من: اعتراف بالحقوق ومن اهمها الحق في احتفاظ المجموعات باستقلالها وخصائصها فللمهاجرين الحق في ان يكونوا على ربعتهم، وان يتعاقلوا بينهم، وكذلك الامر بالنسبة لكل فخذ من الانصار وممن والاهم ولليهود الحق في البقاء على دينهم وبعبارة معاصرة من حق الافراد والجماعات الاحتفاظ بخصائصهم التي لاتضر المجموعة وان يتمتعوا بالامن المادي والمعنوي وبحرية الاعتقاد بخصائصهم التي لاتضر المجموعة وان يتمتعوا بالامن المادي والمعنوي وبحرية الاعتقاد فالوثيقة تؤسس لمجتمع مدني يؤمن بالتعايش بين الجماعات مهما اختلفت اجناسهم ومعتقداتهم» فقد طبعت الوثيقة الواقع الجديد الذي اصبحت عليه المدينة بطابعها المتسامح المبني على قاعدة متينة من مواطن اللقاء الكثيرة المشتركة» فالوثيقة تقر مبدأ الاختلاف وتقدم اول حل لتحقيقه، وهو تحديد حقوق الافراد والجماعات. - ليس من هدف البحث تحليل بنود الوثيقة فقد انجز ذلك بعض الدارسين وان كانت اعمالهم في الغالب قابلة لاضافة تعمّق ما في القضية من أصول تلتقي فيها مع اصول الفكر التعاقدي وآلياته، ولكن من واجبه ان ينبه الى امور منها: - ماجاء في الوثيقة له اصل في القران، وفي الحديث الصحيح، وله تطبيقات في سيرة الرسول (ص) وخاصة في قبول الآخر والعمل على فهم مايصدر عنه واقناعه، وتجنب ترهيبه. فما في بنودها صالح لتامين حياة اجتماعية يسودها العدل والمساواة والتسامح، وتحدد فيها الحقوق والواجبات. ومن النتائج التي توصّل اليها البحث عند دراسة وثيقة المدينة: - ايقن اليهود ان ما يعرض عليهم لايطلب منهم ان يتخلوا عن عقيدتهم وشريعتهم بل قد يبرز تفوقهم ويقر بأن الله فضلهم على العالمين، والى جانب ذلك، فالوافدون الجدد، قد يكونون مصدرا لتقوية نفوذهم اقتصاديا واجتماعيا، فستكثر اليد العاملة، فتنزل بذلك كلفة الانتاج، ويتضاعف الاستهلاك فترتفع الاثمان، وبقبول الاتفاق مع الرسول (ص) افترض اليهود ايضا ان تتسع دائرة حبك المكائد، واثارة الفتن، واشعال الحروب، فتروج سوق السلاح، وهكذا يطونون مستفيدين من اتفاق ليس من الصعب عليهم ان يخالفوه متى تبين لهم ان مصلحتهم تقتضي ذلك. هذه تصورات اليهود وحساباتهم، اما رسول الله (ص) والمسلمون معه، فسيعملون على نشر الاسلام، وتركيز اركان الدولة الاسلامية، والبحث عن اسباب النجاح الذي ينشر الاسلام عقيدة وشيعة وسلوكا. - كان بامكان هذه الوثيقة ان تنتشر في العالم، وان تجد من يبينها للناس، وان يحولها الى مواثيق عالمية، تسهر على تنفيذها مؤسسات سياسية واجتماعية وتشريعية وامنية، ولكنها بقيت في بطون بعض الكتب، ولما اخرجت للناس،وجدت من يحول الانظار عن مضمونها بدراسات شكلية تثير الشبهات. تساءل البحث عن التزام الذين قبلوا الوثيقة بتطبيقها، وهل تسبب اخلال بعضهم ببنودها في ازمات بين سكان المجينة، وماهي الحلول التي وجدت لمنع الاعتداء عليها؟ يعمل البحث على بيان ذلك بعد دراسة عقد المؤاخذة والمؤسسات التي انشأها الرسول (ص) بالمدينة. درس البحث عقد المؤاخذة انطلاقا من الآيات والاحاديث وبيّن دوافعه واهدافه واحكامه ونتائجه، ثم امعن النظر في المؤسسات التي انشأها الرسول (ص) في المدينة، وخلص الى ان الهجرة نشأ عنها ميلاد دولة لها دستور هدفه تحقيق نظام يسمح لافرادها بأن يتعايشوا حتى وان تعددت دياناتهم واجناسهم وقبائلهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولها مؤسسات تعنى بالعبادة وبالعلم، وبالامن، وبالصحة، فهل كانت لهذه الدولة علاقات خارجية، وهل بلغ الرسول (ص) اصحاب السلطة والنفوذ عليه، وهل دعاهم الى الاسلام؟ قبل الاجابة على هذه الاسئلة يتطرق البحث الى حدود الكدينة التي خطها الرسول (ص) ليميزها عن غيرها من الاقاليم. حدود المدينة بعد الهجرة من المتعارف عليه في النظم العالمية ان من عناصر الدولة المواطن، او الارض التي لها حدود معروفة ومعترف بها، والاسلام وان دعا الى وحدة البشر، الا انه لم يبلغ الحدود. الفصل الثاني: مواقف المدعوين الى الاسلام بعد الهجرة عاش الرسول (ص) بالمدينةالمنورة عشر سنوات اقام اثناءها دعائم الدولة الاسلامية ومؤسساتها، واستمر يدعو الى الاسلام، ويبلغ ما ينزل عليه من قرآن، ويسهر على حفظه، وبيانه، وتفصيله، وتنزيل احكامه وحكمه وقيمه الى الواقع العملي كما كان يفضل بين المتخاصمين ويرشد الحائرين، ويرد الحقوق الى اصحابها ويراسل اصحاب السلطة والنفوذ، ويعرض عليهم الاسلام، ويدعوهم الى الايمان، فلا عجب اذا تعددت المواقف من الدعوة واذا تنوعت اهدافها ووسائلها ويعمل الفصل على دراسة هذه المواقف ضمن اربعة مباحث: مواقف المؤمنين ثم مواقف المنافقين، ثم مواقف اليهود، واخيرا مواقف الحكام الذين دعاهم الرسول (ص) الى الاسلام. مواقف المؤمنين آمن المهاجرون والانصار بمحمد (ص) ايمانا لاتشوبه شائبة ولايداخله شك، فصح فيهم قوله تعالى «محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع اخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة واجرا عظيما» (الفتح /29) دقق المبحث النظر في هذه الاية، وفي آيات اثنت على بعض الصحابة، وفي اخبار نقلت ما صدر عن آخرين من مواقف واسئلة فيها اكبار للرسول (ص) في الغالب ولكن بعضها لم يخل من معارضة عمل من اعماله او قول من اقواله، ووصل الامر بالبعض منهم الى التشكيك في عدله. تتبع المبحث هذه المواقف واستنتج ان سكان المدينة الذين آمنوا بالرسول (ص) من هاجر منهم، ومن نصر وآوى، يجمع بينهم رباط مقدس ألّف بينهم وجعلهم ينتسبون الى خير امة اخرجت للناس، ولكنه لم يفقد الافراد والجماعات خصائصهم، ولم يطمس الجانب الشخصي فيهم، ولم يشعرهم بأنهم مجبرون على اتباع غيرهم وهم مسلوبو الارادة والاختيار، بل نهاهم الرسول (ص) عن مثل ذلك السلوك فقال: «لاتكونوا امعة تقولون ان احسن الناس أحسنا، وان ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا انفسكم، ان أحسن الناس ان تحسنوا، وان أساؤوا فلا تظلموا» علق الترمذي على الحديث بقوله: «هذا حديث حسن غريب، لانعرفه الا من هذا الوجه ليبين انه لم يجد له متابعا او شاهدا ليرتقي الى مرتبة «الحسن غيره» ولكن مضمونه يتفق مع ما في القرآن والسنة من دعوة الى ان تكون للفرد ارادة تجعله مسؤولا عما يصدر عنه، فالاسلام، والعقد الذي وضعه الرسول (ص) بين سكان المدينة، لم بلغ الفوارق التي تميز بعضهم على بعض، والتي تسمح لمجتمعهم بأن يكون حركيا، وبأن يتحقق بين افراده حوار متواصل يسعى بفضله الافراد والجماعات الى التعبير عما يمتازون به، ويعملون على تحقيقه، دون ان يخلوا بواجباتهم، قد يخطأ الواحد منهم، وقد يصدر عنه موقف او كلام لا يناسب الايمان الكامل، ولا السلوك المستقيم، ولكن باب التوبة يبقى مفتوحا والرجوع الى الحق والهدى والعمل بالعقد الذي عاهدوا الرسول (ص) على الالتزام به ميسرا. مواقف المنافقين المنافق في اللغة هو الذي يظهر ما لايبطن فتصدر عنه محبة وودّ لمن يكرهه، ويعبّر عن اتفاقه مع الآخر ظاهرا، في حين أنه يعارضه في باطنه. لم يظهر النفاق في مكة لأن أسبابه لم تتوفر فيها، ولكنه وجد في المدينة دوافع تشجع صنفا من الناس عليه، ووردت في القرآن آيات تذكر النفاق والمنافقين وأطلق على سورة منه سورة «المنافقون» ذكر العلماء انها نزلت في غزوة «بني المصطلق» وفضحت اعمال المنافقين دون اشخاصهم، وكشفت سيئاتهم، كالكذب ونقض العهد والتظاهر بالعفة والطهر والاستقامة، مع اخفاء الكفر والدنس، والانتقال من طلب الحق الى الاعتداء والضلال، ووصف القرآن اقوالهم واهدافهم وما في نفوسهم من مرض، فقال فيهم: «ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا ومايخدعون الا انفسهم ومايشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون» (البقرة 8-10) تتبع المبحث مواقف المنافقين التي تظهر تكبرهم، وتآمرهم، وكذبهم ونقضهم العهود وتحالفهم مع الاعداء وسعيهم الى زرع الفتنة بصناعة الاشاعات، وبعض الشهوات من مكامنها والتشكيك في حكمة الرسول (ص) وعدله... واستنتج انهم كانوا يحاربون الاسلام مع التظاهر بالانتماء اليه، اما داخلهم ففيه نقمة وحقد عليه وعلى الداعي اليه، وعلى من آمن به حقا، فمشاعهم واهدافهم لاتختلف عما كان عليه المشركون بمكة وخارجها الا في صراحة التعبير عنها، وفي درجة خطرهم على بعض المسلمين، فهم يظهرون ما لايبطنون، ويندسون في المسلمين، متظاهرين بأنهم معهم، وبأنهم ينصرونهم، فإذا شعروا بأنهم ارتاحوا اليهم، شرعوا في تشكيكهم بطريقة فيها دهاء ومكر، وتؤدي في الغالب الى اثارة قضايا تعارض العقل والنقل، والحكمة من التشريع، ومن تقييد الانسان تقييدا يحدّ من شهواته، ومن حريته، وغيرها من القضايا التي يتفنن المنافقون في اثارتها وزرعها في المجتمع مستعينين بحذقهم الانتقال من موقف الى نقيضه، ومن قدرتهم على الباس الحق بالباطل، ومن علاقتهم بيهود المدينة الذين انضم بعضهم اليهم.