لئن حافظت المهرجانات الدولية الكبرى في بلادنا خلال صائفة 2012 على مجرياتها وعادت إلى النشاط بما يجسد أهدافها ذات الأبعاد الترفيهية والتثقيفية بعد أن تعطلت في الصائفة الماضية بسبب الظروف الاستثنائية التي عرفتها بلادنا في أول صائفة بعد الثورة فإن الدورات الخاصة بهذه الصائفة شكلت مهربا ومتنفسا للتونسيين بعد الضغوطات الكبيرة التي عرفتها مختلف الشرائح الاجتماعية والعمرية تفاعلا مع تداعيات الشؤون السياسية والاجتماعية التي طغت بدورها على الاهتمامات. فكان حضور الجمهور التونسي أو من جنسيات أجنبية مقيمة بمثابة ردة فعل تجاه الفعل الثقافي على اعتبار أنه شأن حياتي بالنسبة لأغلب التونسيين لا يقل قيمة عن ضرورات العيش رغم أن أغلب العروض والأسماء التي شاركت في هذه المهرجانات لم ترتق إلى مستوى انتظارات ومطالب التونسيين من المنجز الثقافي في تونس ما بعد ثورة 14 جانفي رغم تأكيد مهدي مبروك وزير الثقافة مسبقا على أن برمجة المهرجانين الخاصة بالدورة المنقضية استثنائية بجميع المقاييس. وسجل الاستثناء تحديدا في مهرجاني قرطاج والحمامات الدوليين التابعين لوزارة الثقافة وذلك بعد أن تحول فضائيا التظاهرتين إلى مسرح لأجواء ومشاهد وأطوار غير عادية. عندما يختلط الثقافي بالسياسي اختلط ما هو سياسي بما هو فني وثقافي في المهرجانين الدوليين التابعين لسلطة الإشراف. وهذا الاختلاط لم يكن في مستوى الأشخاص أو الأحزاب والتيارات السياسية وإنما في مستوى التفاعل مع الوضع والشأن السياسي. وتجلى ذلك بالأساس في الأجواء التي رافقت أغلب العروض لاسيما الكبيرة منها والتي شهدت إقبال أعداد كبيرة من الجماهير. لتتحول المدارج في أحايين كثيرة إلى فضاء لترديد شعارات سياسية ومطالب اجتماعية أو للتنديد ببعض المواقف وإبداء مواقف من بعض الأسماء والقرارات. كما أثر هذا المعطى على أغلب العروض لتدور تحت رايات أو غطاءات سياسية أملتها ميولات أو رغبات وتوجيهات بعض الأطراف. فغاب الحديث عن المستوى والقيمة الفنية والأعمال الجديدة كشرط أساسي لهذه العروض المنتقاة لتحل محلها مقاييس تقييمية تجارية وربحية بحتة. لئن انتظر البعض عرض الفنان مارسيل خليفة على اعتبار أنه يمثل رمزا للتعبيرة الفنية التي تنتصر للحرية وحقوق الإنسان ومناهضة قمع الحريات وسطوة الأنظمة الديكتاتورية فإن عرضه الذي دعمته وزارة الثقافة وحط الرحال في عدد كبير من الجهات التونسية بما في ذلك ركح المسرح الأثري بقرطاج لم يكن محيّنا أي لم يتضمن ما انتظره منه محبوه الذين جاؤوا خصيصا للاستماع إلى تعبيرته على الثورة التونسية أو الثورات العربية. مما جعل المسألة تخضع لتأويلات وقراءات مختلفة فسرها البعض على أن هذا الأخير لم يعد يمثل صوت الشعب وفنه لم يعد صدى لمعاناة الطبقات الشعبية والمضطهدين. مارسال خليفة كان قد استهل حلوله بأرض تونس بدخول القصر الرئاسي. وجوه سياسية غير مرغوب فيها ومن بين المشاهد أو الأحداث الأخرى التي شدت الاهتمام في مهرجاناتنا هو ما قوبل به الوجوه السياسية في بلادنا من رفض إلى درجة المطالبة بمغادرتهم المهرجانات. لعل أبرزها الموقف البارز الذي عاشه سمير ديلو وزير حقوق الانسان والعدالة الانتقالية في عرض الكوميدي المغربي الفرنسي جمال دبوز على ركح المسرح الأثري بقرطاج أو كل من رفيق عبدالسلام وزير الخارجية وعامر العريض عضو المجلس الوطني التأسيسي في عرض الفنانة الأمريكية في مهرجان الحمامات. وتكرر نفس الموقف تقريبا في مهرجان قرطاج تجاه أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وبعض أعضاء الحكومة أثناء حضورهم في عرض الافتتاح أو في بعض العروض الأخرى. وعلل البعض هذا الرفض بأنه موقفا من الحكومة الحالية التي حادت عن مطالب الشعب وأهداف الثورة فضلا عما كرسته من محسوبية وما ظهر من «استكراش» في المناصب والتعيينات فضلا عن غياب هؤلاء الوجوه أثناء الحملات أو الهجمات الشرسة والمغرضة التي تعرضت لها القطاعات الثقافية والفنية إضافة إلى الاعتداءات المتكررة على الفنانين وعدم وقوفهم إلى جانب هذه الجهات المستهدفة. والطريف أن العروض التونسية رغم قلتها وباستثناء عرض الافتتاح لم تشهد اقبال مثل هذه الوجوه السياسية رغم أن البعض كان ينتظر حضورهم في عرض رضا الشمك مثلا الذي أحياه في ذكرى الاحتفال بعيد الجمهورية. التنظيم ونقطة الاستفهام طرحت مسألة التنظيم في مهرجان قرطاج الدولي في دورته الأخيرة عديد نقاط الاستفهام نظرا لما سجل من فوضى وغياب شبه تام لكل ظروف الدخول والفرجة والعمل التي كان من المفروض أن تتم مراعاتها من قبل سلطة الإشراف والجهات المساهمة في تنظيم المهرجان على اعتبار أن التنظيم يبقى عاملا ضروريا لا يقل قيمة عن عناصر العروض والتغطية الاعلامية وغيرها لإنجاح المهرجان وضمان سير أفضل للسهرات التي تستقطب حضورا من الجنسين ومن شرائح عمرية وجنسيات مختلفة. وقد سجلت هذه اللخبطة في العروض التي شهدت إقبال أعداد كبيرة من الجماهير على غرار عروض كل من صابر الرباعي جمال دبوز إضافة إلى العروض الثنائية التي أثثها كل من اللبنانيين راغب علامة ونجوى كرم أو رامي عياش ووائل جسار وغيرها من العروض التي عرفت حضورا منقطع النظير للجماهير. وقد خلق التصادم بين وجهات نظر وزارتي الثقافة والداخلية حول النواحي التنظيمية أجواء من التوتر ألقى بثقله وتأثيره على ظروف سير العروض. لكن تشبث الجمهور التونسي بحقه في الاستمتاع بمادة ثقافية فنية من العوامل التي جعلت المهرجان يحافظ على ألقه وتستمر عروضه رغم تباينها من حيث القيمة والتوعية. وقد كان الإعلاميون الحلقة الأكثرتهميشا في خضم هذه الفوضى. نظرا لما تعرضوا له من ضغوط وتضييقات لكنها لم تجعلهم يحيدون عن آداء مهامهم ولو كان ذلك في ظروف جد صعبة.