عندما باغت بائع خضر الرئيس محمد المنصف المرزوقي بالإنحناء أمامه وتقبيل يده أثناء جولة قادته قبل أسابيع من الآن إلى سوق الجملة بالقرب من العاصمة التونسية، إنهالت التعليقات على شبكات التواصل الإجتماعي وفي معظم الصحف المحلية منددة بتلك الحركة التي لم يكن ليخطر على بال صاحبها أنها ستتحول إلى مؤشر آخر يستدل به الكثيرون لإطلاق صيحات الفزع والتحذير من عودة وشيكة لوباء الديكتاتورية الذي طالما عانت منه البلاد في العقود الماضية. أشهرا، بعد تلك «الواقعة» وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان ولما تم حشد مجموعة من شباب مدينة «سيدي بوزيد» وإستغلال ظروفهم المعيشية الصعبة من قبل جهات معروفة بعدائها الواضح للسلطة، ثم الزج بهم في مظاهرات عنيفة وصلت حد الهجوم على مقر الولاية وكسر باب مدخلها الرئيسي ومحاولة حرقها، تحت شعار «يوم تحرير سيدي بوزيد من الحكومة»، لم نسمع أي صوت من تلك الأصوات الكثيرة التي إعتادت على الإرتفاع في كل مرة ودق نواقيس خطر «إفتراضي» من رجوع ممارسات الإستبداد السابقة، تطالب وبنفس ذلك الحماس المعهود باحترام المؤسسات الشرعية التي إختارها الشعب في إنتخابات الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي، وتنبه إلى مخاطر إستخدام العنف على عملية ديمقراطية ما تزال غضة وطرية العود. إن ما حدث للرئيس مع بائع الخضر وما جرى فيما بعد في «سيدي بوزيد» وغيرها من المدن التونسية الأخرى، لا يكشف فقط حجم التلاعب الخطير والإستخدام الممنهج لسلاح «المغالطات الإعلامية» في معارك سياسوية أصبحت وبمرور الوقت تثير إشمئزاز معظم التونسيين، بل يدل أيضا على حدة التجاذبات التي جعلت الساحة منقسمة بين معسكري أنصار حكومة «الترويكا» ومناوئيها. و إذا كان مثل هذا الإنقسام من الناحية المبدئية وفي الديمقراطيات العريقة أمرا طبيعيا ومفهوما، فإنه يصبح في الحالة التونسية مربكا ومهددا بتقويض المسار وإفشاله. إن مبعث ذلك الإرباك والتهديد يكمن في أمرين: الأول : طبيعة المرحلة الإنتقالية التي تمر بها البلاد وهي مرحلة على درجة عالية من الدقة و الصعوبة ذلك أن مشاق التخلص من الإرث الثقيل لسنوات طويلة إختلطت فيها شراسة القمع و كتم الأنفاس بفداحة و حدة الإختراقات التي قامت بها مافيات الفساد في كامل أجهزة و مفاصل الدولة، قد لا تعادلها جسامة وخطورة سوى مهام الإصلاح و إعادة البناء من تحت أكوام مهولة من الركام. و بهذا المعنى يصبح الإصطفاف إلى سلطة مطوّقة بخصوم لا هم لهم سوى إسقاطها بشتى الوسائل، ومعارضة جنينية ليس لديها الرشد السياسي اللازم، أمرا مهدرا للجهود، ووقودا إضافيا لإشعال الأزمات الحقيقية والمفتعلة، مما يسمح للخلايا النائمة «للثورة المضادة» بإلتقاط الأنفاس ثم بالمطالبة بكل صفاقة بحقها في العودة إلى الحركة والنشاط، وهو الذي حدث ويحدث الآن في تونس. أما الأمر الثاني الذي يجعل من ذلك الإنقسام مبعث إرباك وتهديد فهو أنه إنقسام زائف وخادع لا يعكس موازين القوى الفعلية، ويخفي تحت ردائه السياسي نظرة إيديولوجية ضيقة لا تعترف بحق الإختلاف والتمايز، بل تعتبر أن المنظومة الفكرية والثقافية التي بدأ في نسج خيوطها الرئيس بورقيبة وأتمها فيما بعد سلفه الهارب، هي منظومة مغلقة غير قابلة لأي إختراق ومن أي نوع كان. وإنطلاقا من تلك الرؤية الإقصائية تصبح الحريات والحقوق العامة والخاصة ملكية إحتكارية لا يمكن الإقتراب منها أو التجاسر حتى على النقاش بشأنها، ما دامت تلك الأطراف التي تسمى «نخبا» وتنضوي تحت لواء تلك المنظومة هي الناطق الوحيد المخول له التحدث باسمها . إن المفارقة العجيبة التي تحصل اليوم في تونس، هي ان الإسلاميين يشاركون في السلطة السياسية ولكن الساحات الإعلامية والثقافية ما تزال عصية عنهم وموصدة في وجوههم. و لعل حالة المخاض التي تعرفها عدة أحزاب من خلال عمليات الإنصهار والإئتلاف والتحالف، ليس القصد منها فقط مجرد تقسيم المشهد بين حركة النهضة الحزب الإسلامي المشارك في السلطة ومعارضيها، بل أيضا عزل نموذج قيمي ومجتمعي بحشد أكبر عدد ممكن من الحلفاء ضده ضمن جبهة واحدة. و من هنا، فإن صيحات التحذير والإنذار ماهي إلا جزء أساسي من تلك اللعبة، ومحاولة فعلية لتكريس إنقسام يبحث عنه البعض ممن مثل فوز الإسلاميين في إنتخابات أكتوبر الماضي بالنسبة إليه «ورطة» ديمقراطية ينبغي الآن الخروج منها بأخف الأضرار وبسرعة فائقة ولو عبر طرق»غير ديمقراطية «. فالغاية عند هؤلاء تبرر الوسيلة كما كان يعتقد بن علي في الماضي وكما يعتقدون اليوم سيرا على خطاه وإستنساخا لمواقفه السابقة. ان مصير بن علي معروف، أما مصيرهم ومصير الانقسام الذي يروجون له، فالأيام القادمة كفيلة بأن تكشفه بالوضوح المطلوب... بقلم نزار بولحية