لم أتألم على حال البلاد كما تألمت عندما تابعت أخبار الاعتداء الوحشي الذي قامت به مجموعة الجهل والظلام لإفساد الاحتفال بيوم القدس العالمي الذي أقامته رابطة التسامح في بنزرت. والألم ليس مرده ما تعرض له منظمو هذه التظاهرة بل ما تعرض له ضيف تونس من بهذلة وإحراج. هل تتصورون أن يتعرض نلسون مانديلا إلى موقف كالذي عايشه سمير القنطار في تونس؟ لا يعرف, ولن يعرف, هؤلاء الجهلة أنهم اعتدوا على رمز مقدس من رموز الجهاد ضد العدو الصهيوني. لا يعرف هؤلاء, ولن يعرفوا أنهم في الحقيقة ظاهرة صوتية ناشزة وأن الدين والحق منهم براء. لقد أساؤوا بفعلتهم هذه إلى فلسطين التي يتغنون بها والتي لا نعلم لهم سابقة جهاد فيها, وأساؤوا إلى تونس التي أشك في انتمائهم إليها وأنهم من أبنائها. ربما يكونون من أبنائها لكنهم «أبناء حرام», وإلا كيف يجرؤون على مد أعناقهم أمام قامة من حجم سمير القنطار؟ كيف يسمحون لأنفسهم أن يقفوا أمام الثلاثين سنة سجنا في زنازين الاحتلال؟ كيف تحملهم أرجلهم حتى يتطاولوا على من عجزت إسرائيل على تركيعه؟ كيف لا ينحنون برؤوسهم وعقولهم البائسة إجلالا واحتراما وتقديرا لمن لا تزال نفسه ترشح برائحة زنازين الاحتلال الإسرائيلي وسجونه؟ ألا يعرفون أن ذاك السجين الضيف محكوم عليه بالمؤبدات لا بمؤبد واحد أكثر من 500 سنة سجنا -؟ ألا يعرفون أن سمير القنطار ليس فلسطينيا وليس سنيا ولا حتى شيعيا؟ ألا يعرفون انه لا تربطه بفلسطين غير الفطرة التي فطر الله الناس عليها من حب للحق ووقوفا في وجه الطغيان والظلم؟ فمن يكون هؤلاء حتى يتجرؤوا عليه؟ ألا يعرفون أن عملهم المخزي قد أساء للبلاد والعباد؟ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (التوبة الآية 10) صدق الله العظيم. لم يحترموا فيه حتى أصول وواجب الضيافة.
إن كانوا يعيبون على هذه الذكرى أنها استجابة لدعوة الإمام الخميني الشيعي لمناصرة القضية الفلسطينية, فهل فكروا, هم ومن يقف وراءهم, أصلا في أي عمل لمناصرة القضية الفلسطينية؟ هل منعهم احد أن يجاهدوا ويقاتلوا في فلسطين؟ هل كمم احد أفواههم لإعلان نصرة غزة وكسر الحصار عنها مع إنهم يبذلون المال والرجال لإسقاط النظام السوري؟ هل توقفت قريحتهم وعمى على أبصارهم وقلوبهم لمساندة هذا الشعب المنكوب وهذه القضية اليتيمة حتى استكثروا على بعض التونسيين تذكير الناس بمعاناة هذا الشعب الأبي؟ هل يعرفون مثلا أن يوم 21 أوت من كل سنة هو ذكرى حرق المسجد الأقصى؟ ألا يجدون في التاريخ المعاصر لهذه الأمة نكبة- وتاريخ هذه الأمة كله نكبات- يحتفلون بها ويحيونها؟ أم أن منطقهم وتفكيرهم هو أن لا يرحموا ولا يتركون رحمة الله تنزل على العباد.
إن تاريخ اليسار العربي أكثر صدقا في الوقوف مع نضال الشعب الفلسطيني في احتفالياته بيوم الأرض وإحيائه ليوم النكبة, ويوم التضامن مع الشعب الفلسطيني وذكرى اندلاع الكفاح المسلح وغيرها من التواريخ الفاصلة في النضال الفلسطيني, لكن اليسار رفع يديه عن القضية بعدما تحول الهوى الفلسطيني إلى أصحاب اللحى والجلابيب. هل نعوض اليسار العربي في مناصرة القضية الفلسطينية بهؤلاء؟ تعسا, وأسفا للقدس وللشهداء أن يكون لهؤلاء دور في النضال والجهاد في سبيل تحرير القدس من براثن الصهيونية والاحتلال؟ هل يمكن أن يرث القضية الفلسطينية من يحركه الجهل والعمى, يصل به الأمر أن يفقد بوصلته وبصيرته فلا يقدر رموزها ولا يحترم قاماتها ولا يضاف ولا يستضيف؟ هل يرعب المسلم ضيفا سجينا قضى زهرة شبابه وأعز أيام حياته في زنازين الاحتلال؟ هل يهدد «الدين» ويحجب عن الناس من دفع حياته وتآكل جسمه برطوبة أقبية سجون الصهاينة ؟ هل يكون الغدر والإهانة وإرهاب الضيوف من صفات المسلم؟ هل من الدين أن تمنع بالقوة والتهديد فرقة إنشاد صوفي بدعوى أنها إيرانية؟ وفي رمضان؟ ماذا يعرف هؤلاء عن الصوفية وأرباب الصوفية أصلا؟ هل في هؤلاء من يعرف شيئا عن صدر الدين الشيرازي؟ هل سمعوا في حياتهم بالخيام عدى أغنية أم كلثوم؟ هل سمعوا حتى مصادفة باسم جلال الدين الرومي؟ ماذا يعرفون عن الصوفية حتى يمنعوا عرضا لفرقة من بلاد هي منبع الصوفية والعرفان؟ عذرا مني يا قنطار ومن شعب هذه البلاد التي كانت تهتز على وقع قذائف الصواريخ التي كانت تسقط لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي على حيفا والناصرة وكل شمال فلسطينالمحتلة. كانت أياما لا تنسى ولن ننساها. كنا ولا نزال نرفع أيدينا بالدعاء والتضرع للعلي القدير أن يحمي السواعد التي كانت تطلقها. بل إننا نقبل الأرض التي يمشون عليها. هل قرأ هؤلاء قول الله « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) التوبة. ألا يعلم هؤلاء أن الذين يسبون ويعادون يغيضون الكفار ويصيبهم الضمأ والمخمصة والنصب وينفقون في سبيل الله, ونالوا وينالون من العدو, فمالكم كيف تحكمون؟ قيل في الحكمة « يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه, إلا أن بليغ القول وفصله فيما ينطبق على هؤلاء هو قول الله عز وجل « وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) الأعراف. عذري أيضا هو عذر عن الجهات الرسمية التي لم تكلف نفسها عناء تكريمك وتحرجت من مجرد استقبالك وتوفير ما تستحق له من الحماية التي تليق بمقامك وأهميتك ولم تكلف نفسها عناء الاعتذار لك على سوء الضيافة واللياقة. أعلم انك ستقبل عذري لأنك تفهم أن في كل بلد جزءا مريضا وفاسدا, فعذرا منك لأنك صادفت الجزء المريض الفاسد بعدما ظننا أن البلاد بدأت تتعافى من أمراض التجهيل والمسخ والتدمير التي تعرضت له طيلة ربع قرن. كنت للأسف ضحية لبعض من منتج الحمق والطيش. تونس كانت ولا تزال لفلسطين, والقدس جزء من وجدانها, كفانا فخرا أن باب المغاربة في المسجد الأقصى يعطينا حق وراثة أجدادنا في فلسطين لا مجرد التعاطف والنصرة. عسى أن يستضيفك هذا البلد ثانية لننسيك ما تعرضت له من حرج وقلق لم يتجاوز والحمد لله حد الإزعاج فيما يتعلق بشخصك. فقناطير من الاعتذار يا قنطار......