الإنسان تتصارعه قوّتان: الغريزة والعقل، فالغريزة قوة فطرية، تصدر عنها أفعال قهرية لغاية محدودة، والعقل ملكة كسبية، تتولى ضبط الأفعال ضبطا إراديا بتدبير خاص، لغرض مقصود، وباختلاف وسائل الكسب تتفاضل عقول الأشخاص، فتتنوع الأعمال الناجمة عنها؟ على أن عقل الشخص الواحد تتفاوت أفعاله، باختلاف أطواره والمؤثرات فيه. أما الغرائز، فكل نوع منها يجري على منوال واحد، قلما أدركت فيه تفاوتا، فاعمال العقل متخالفة، وأعمال الغريزة متشابهة، يظهر لك هذا الفرق جليا عند مراقبة شؤون الناس في تدبير مصالحهم، والافتنان في مصانعهم، والتحيل في المنافسة والغلبة، ولا ترى مثل ذلك لدود القز في صنع الحرير، ولا للنحل في جمع رحيق الأزهار، ولا للخطاف في المهاجرة، وقد جعل بعض الباحثين الغريزة (الالهام) خاصة بالحيوان، وجعل العقل حبسا على الإنسان، ورأى آخرون أن عند الإنسان غرائز تزيد على ما عند الحيوان، وكرمه الله فمنحه العقل الذي به يصوغ الأحكام بالقياس على ما خبره بنفسه، وما عرفه من غيره، ومال آخرون إلى أن الغريزة في الحيوان ثابتة الكيان، وتتهذب في الإنسان، ومنها إذاك يتولد العقل، فالغريزة والعقل عند الإنسان قوّتان منفصلتان، فتتولى الغريزة تديير الجسم في الطور الأول من الحياة، وبعد ذلك يقوم العقل مقامها تدريجيا حتى تتضاءل الغرائز وتتسيطر القوى العاقلة، غير أن الغرائز حينئذ تبقي أثرا يدل على حالتها الأولى، التي اشترك فيها الإنسان والحيوان، ويذهب الحكيم «وليم جيسم william james» إلى ضرورة وجود الغرائز، في تركيب الإنسان، ولو بعد استيفاء العقل حظه من الكمال، وأن نمو العقل لا يدل على أن الغرائز ضعفت وفنيت، بل يدل على أنها تهذبت،ليتسنى لها مزاولة الأمور وتدبير الشؤون، وقد اعتد بهذا الرأي المتأخرون من المربين». وقد توفي هذا العالم الأمريكي (وليم جيس) سنة 1911، الذي نبغ في الحكمة العقلية وقام بتدريسها في جامعة (هارفارد: بنيويورك)، (انظر كتاب الغرائز علاقتها بالتربية للشيخ محمد حسنين الغمراوي بك). ذكّر هذا بمقولة «صولون»، «في أعماق كل امرئ محكمة يبدأ فيها بمحاكمة نفسه بنفسه» وجال في ذهني ما قيل عن «الهوى» قال اللغويون «الهوى محبة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه» قال الله تعالى «ونهى النفس عن الهوى» (النازعات آية 40) معناه نهاها عن شهواتها وما تدعو إليه من معاصي الله عز وجل، وقال سبحانه «ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه» (الكهف آية 28) ولهذا كما قيل «من أطاع هواه باع دينه بدنياه» قال أبو حامد الغزالي «إن للانسان في مجاهدة الهوى ثلاث أحوال: الأولى أن يغلبه الهوى فلا يستطيع له خلافا وهو حال أكثر الخلق. الثانية: أن يكون الحرب بينهما سجالا فهذا الرجل من المجاهدين فإن اخترمته المنية في هذا الحال فهو من الشهداء لأنه مشغول بامتثال قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءهم. والثالثة: أن يغلب هواه، وهذا هو الملك الكبير والنعيم الحاضر، والحرية التامة، والخلاص من الرق». قال أحد الحكماء « من نظر بعين الهوى خاب، ومن حكم بالهوى جار»، وقال ابن زيدون: «وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا» لقد لوحظ أنهم « كثيرون منا يعرفون كيف يطاوعون أنفسهم، ولكنهم لا يعرفون كيف يتحكمون فيها» فينصحهم ابن المقفع «إذا بدالك أمران لا تدري أيهما أصوب، فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإن أكثر الصواب في مخالفة الهوى» قيل لأبي القاسم الجنيد «متى تناول النفوس مناها؟» قال «إذا صار داؤها دواها» قيل «ومتى يصير داؤها دواها؟» قال «إذا خالفت النفس هواها»، قيل للمهلب «بم ظفرت؟» قال «بطاعة الحزم وعصيان الهوى» وقد قيل «من كان أسير هواه لم يصلح لقيادة معركة التحرير» يقول « توماس كارليل»أكبر خطإ ألا تفطن إلى خطيئة نفسك» ويضيف (سنيكام «إن يكون المرء عبد أهوائه فذلك أشد أنواع العبودية ألما». تلك هي أحوالنا، فالمطلوب أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه، حتى ينتصر عقله على غرائزه وأهوائه، وصدق «نيتشه في قوله «عندما نحاسب أنفسنا لا يحاسبنا الغير». ألم يكفك أيها الإنسان ما افادك به خالقك «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها» (الشمس آيتان 78). يقول سماحة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله «أن من آثار تسوية النفس ادراك العلوم الأولية، والادراك الضروري المدرج ابتداء من الانسياق الجبلي نحو الامور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يكره، الى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الإكتساب بالنظر الغفلي، وكل ذلك الهام، وتعدية الالهام الى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لو لا ما أودع الله في النفوس من ادراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الالهية فلو لا العقول لما تيسر افهام الانسان الفجور والتقوى، والعقاب والثواب.» (انظر تفسيره)، فالانسان لم يترك سدى أي تركه بدون جزاء على أعماله رغم أن له حرية ولا يكره على شيء حتى الدين «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» (البقرة آية 258). فالإكراه يعني الحمل على فعل مكروه: « «والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام، أي لا تكرهوا أحدا على اتباع الإسلام فسرا...» خصوصا وقد اتضح «الهدي وسداد الرأي» وهو معنى الرشد «ويقابله الغي والسفه» وهو الضلال، فقد «ضمّن الرشد من الغي ظهور أن متبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختيارا» بعد كل هذا أذكر الذين انحرفوا عن الرفق وتمسكوا بالعنف «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون» (البقرة آية 44). هؤلاء «يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون» (المائدة آية 103). فإذا قال الله لخاتم رسله «عليك البلاغ وعليّ الحساب» (الرعد آية 40) فمن اين أتتك شريعة العنف يا من انحرفت عن شريعة الله، شريعة الإسلام الميسرة.