إن المتتبع لحكومة الترويكا المؤقتة التي هي نتاج للتحالفات الثلاثية الأبعاد التي أفضت إليها انتخابات 23 أكتوبر 2011 وما آل إليه الوضع العام في البلاد ليصاب بشيء من الغثيان وهو يتساءل: ما هي الخطة الحقيقية غير المعلنة لحكومة التحالف المؤقت الذي بات ينظر إلى ما بعد أفق 2014؟ وما هو السر الكامن وراء الكثير من التصريحات التي تشدّ أعناقنا إلى ما بعد ذلك التاريخ في خرق واضح للعقد الزمني والأخلاقي الذي كان محل إجماع الجميع بما في ذلك الترويكا قبل أن تصبح "الضفدعة" التي تريد أن تجفّف ماء البحر بأن تبتلعه؟ وما هذا التكالب كله على إخضاع كل شبر من الخارطة التونسية إلى مسامير الترويكا بشكل عام والنهضة بشكل خاص؟ وكيف يمكن منطقا وفلسفة لهؤلاء الذين يدعون تعرضهم للاضطهاد من قبل حكومة البوليس التي كان يسهر عليها الرئيس المخلوع ثم هم يسعون وبكل الوسائل الترغيبية والترهيبية إلى تأسيس نظام سياسي جديد على نفس ذلك المنهاج بل إنه أكثر خطرا على البلاد والعباد في ظل تزايد غير مسبوق للفقر والمجاعة والمرض والفساد المالي والسياسي وارتفاع معدلات الجريمة وعدد العاطلين عن العمل والتهاب الأسعار بحكم المضاربات والتعفن البيئي وتراجع دخل التونسي بشكل لا نظير له حتى أن الكثير بات يبكي على نظام المخلوع سرا وعلانية؟ هل غيرت الترويكا نظرتها للحكم المؤقت لأنها تحلم بحكم دائم مثلما نراه ونقرؤه هنا وهناك من أن "الجماعة" ستبقى السنين الطوال؟ وبماذا نفسّر هذه الهجمة على الحريات الأكاديمية والاستهتار بالحرمة الجامعية وتنصيب الرقباء وأصحاب المقص على الإعلام المرئي والمسموع والصحافة وتحويل الصحافيين إلى مجرد ملحقين بوزارة "البروبغوندا" وكأننا في زمن البرافدا الروسيية وتهميش القضاء ومنعه من تنظيم صفوفه وبناء استقلاله عن السلطة التنفيذية لإرساء قضاء عادل لا ولاء له إلا للضمير وللقانون؟ إن الأسئلة المطروحة والتي تطرح نفسها هي أكثر مما نتصور ولكن الأجوبة الرسمية على هذه الأسئلة تزيدنا أكثر حيرة بخصوص الأفق الذي تؤسس له الترويكا والأفق الذي ينتظره الشعب التونسي الذي بقي يعاني من الكرّ والفرّ والاحتيال السياسي لإحكام القبضة على المجتمع برمته. ثم إن الأمر لا يتعلق بالبقاء الدائم أو المؤقت لحكومة المرحلة الانتقالية بقدر ما هو يتعلق بالتزاماتنا التي أخذناها على أنفسنا كشعب واع لمصيره بفئاته على اختلاف مشاربها الفكرية والعقائدية والفلسفية والإيديولوجية والثقافية وهو أن نمنع عودة الديكتاتورية تحت أي مسمّى ومهما كانت ألوانها وأشكالها والأسلحة التي تستعملها ضدنا وأن نمنع تغوّل إحدى السلط على بقية سلطات الدولة حتى وإن كان ذلك نابعا من السلطة التشريعية لأنه لا وجود مطلقا في أي نظام ديمقراطي تغول سلطة على باقي السلط لأن ذلك التغول هو ما عانت منه البلاد والعباد زمن الجنرال بن علي ولا أحد يرغب في العودة إلى مسار الظلم والإستبداد من جديد. إنه في اعتقادنا الراسخ أن التجربة التي تعيشها تونس منذ انتخاب المجلس التأسيسي وما شابها من إرهاصات وتراكمات وكرّ وفرّ ومدّ وجزر وتضاربات ومضاربات وغلو في استحقار الغير من الفئات والكفاءات الفكرية والتشبث بالكراسي والسطو عليها بجرة قلم واعتماد الأرض المحروقة لإعادة هيكلتها وزرع البذور التي يرتاح إليها هؤلاء لتحويل المجتمع التونسي إلى مجرّد مدجنة لا حول ولا قوة لها، وهو ما يسمونه هنا بالنظام البرلماني "المعدل" - ولست أدري من أين أتوا بهذه التعابير الغريبة عن اللسانيات السياسية التقليدية،- هذا النظام المنتظر هو الذي نعيشه الآن، قوامه أكثر من 80 بالمائة من سلطة الدولة هي في يد رئيس الحكومة الذي هو في الوقت نفسه زعيم الأغلبية النسبية داخل المجلس التأسيسي. إن هذا التوجه هو نسخة طبق الأصل من المجلس التأسيسي المنبثق عن انتخابات 1956 عندما أعلن هذا المجلس رئيس الحكومة وهو الزعيم بورقيبة أنذاك "رئيسا للجمهورية التونسية" الحديثة الميلاد فكان ذلك بمثابة الكارثة على النظام الجمهوري بشكل عام والديمقراطية بشكل خاص حيث أصبح بورقيبة أكثر سلطانا من لويس السادس عشر الذي حكم فرنسا بالنار والحديد. صحيح أن بلادنا قد عاشت تجربة "النظام الرئاسي" منذ الزعيم بورقيبة إلى نهاية الرئيس المخلوع ولكنه لم يكن نظاما رئاسيا بالمفهوم الدستوري والتقليدي للكلمة بل كان "نظاما لقيطا" لأن النظام الرئاسي الحقيقي هو الذي تعيش على وقعه الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ عام 1787 إلى يومنا، هذا النظام الرئاسي المتوازن بين صاحب البيت الأبيض الذي يمكن له أن يحكم الولاياتالمتحدةالأمريكية خلال مرحلتين ذات أربع سنوات كل واحدة ثم يذهب لحال سبيله ويمكن لنائبه إذا ما ترشح أن ينجح أو أن لا ينجح وعندها يذهب لحال سبيله هو الآخر أمثال بيل كلينتون ونائبه القور أو جورج دبليو بوش ونائبه ديك تشيني ومثلما هو الحال الآن بالنسبة لأوباما المرشح لولاية ثانية. ومجلس الشيوخ الذي يتمتع هو الآخر بسلطات عالية وهو ليس تحت أوامر الرئيس حتى وإن كانت له أغلبية النواب داخله هذا المجلس له الحق في مقاضاة الرئيس ومحاولة اسقاطه إذا ما ارتكب خطأ فادحا كأن يكذب تحت القسم أو أن يتجاوز حدود الشرف واللياقة وقد كادت فضيحة لوينسكي أن تؤدي ببيل كلينتون إلى العزل فالمحاكمة كما أدت من قبله فضيحه إيران قايت جيمي كارتر إلى عدم الفوز في الخلافة الثانية لحكمه وظهر مكانه أنذاك فارس الخيول الخشبية رونالد ريغن على خلفية الثورة الاسلامية الإيرانية واحتجاز الرهائن الأمريكيين من قبل أحمدي نجاد وأصدقائه من الطلبة أنذاك. ثم تأتي في المرتبة الثالثة السلطة القضائية التي لا تقل وزنا أو شأنا عن السلطتين السالفة الذكر وهي بمثابة الحكم المستقل تماما عن المجتمع السياسي وعن وزير العدل ورئيس الدولة الذين لا يمكنهما مطلقا توجيه النقد إليها أو الاحتكاك بها أو محاولة تدجينها مثلما هو الواقع في بقية الأنظمة الرئاسوية في العالم العربي وإفريقيا وأمريكا اللاطينية. وعليه فإن المنتظر من النظام البرلماني "المعدل" وهو لا يوجد في أي بلد إلا في تونس الآن هو ما بدأنا نعيش على وقعه بين ثلاث سلطات متنافرة : -سلطة رئاسية لا تملك شيئا من السلط المعهودة لرئيس الدولة، فالرئيس أوباما ليس مجرد دمية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بل هو رئيس السلطة التنفيذية والملكة إليزابات ليست مجرد هيكل صوري بين يدي مجلس العموم البريطاني ورئيس الحكومة الحالي كاميرون بل هي فاعل أساسي على الساحة الوطنية والدولية وتصرّف الشؤون الراجعة لها بالنظر مباشرة أو من وراء الستار وكاميرون يجتمع بها مرة على الأقل كل أسبوع ليس لإهدائها باقة من الزهور أو هو مدعو لشرب الشاي والبريكفست بل لتسيير شؤون البلاد وتلقي المشورة والرأي. والسلطة القضائية هنالك ليست في خدمة السياسة بل هي تسهر بكل استقلالية على احترام القانون وسير المرافق العدلية لفائدة الشعب البريطاني. وبين النظام الرئاسي الأمريكي والنظام البرلماني البريطاني توجد السلطة الرابعة ولعلها أقوى سلطة لأنها هي التي تشرف على النزاهة والشفافية إنها سلطة الإعلام الحر التي بإمكانها إسقاط أي طاغية حتى إن كان كاميرون أو أوباما وكلاهما ليسا من الطغاة المحنكين اوالمحنطين لدينا في العالم العربي والذين هم يحكموننا حتى من داخل القبور لأن الإعلام يعد أعلى درجات المرافق العمومية والخاصة بالنسبة لأي نظام ديمقراطي. إنها فضيحة الشعوب المغلوبة على أمرها التي تصنع الفراعنة والمتغولين في كل شيء، لذلك علينا أن نتساءل: هل هذا هو النظام الذي نرغب في تأسيسه ما بعد ثورة الكرامة والخبز ؟ هل قامت الثورة من أجل السطو على الحريات العامة والخاصة وعلى تركيع المجتمع المدني بما فيه من أنسجة نقابية تهم العمال الكادحين بالليل والنهار كما تهم أهل الفكر من رجال القانون والإعلام والثقافة والإبداع؟ هل قامت الثورة من أجل جعل بيوت الله مقابر لل "بروبقاندا" السياسية ولتسطو عليها فئة ذات نزر قليل من المجتمع بقوة الأسلحة البيضاء والسيوف وكأننا في عهد الجاهلية؟ هل قامت الثورة من أجل العودة إلى الوراء؟ لا أحد مطلقا يعتقد أن شباب الثورة ورجالها من الكادحين العاملين بالليل والنهار قد أشعلوا شرارة الثورة من أجل أن تغتصب الأرض والحرية بل من أجل الانعتاق وبناء مجتمع أفضل. لذاك كان لزاما علينا أن نشد أوزارنا وأن لا ندير الظهر إلى ماضينا القريب وإلى شهدائنا الأبرار وأن نجنح إلى الحق لأن الباطل كان دائما زهوقا وأن نغتنم رحمة ربنا علينا بأن أزاح عنا فرعون فلا نكون سريعي النسيان فنؤسس من جديد لفرعون آخر من حيث لا نشعر فنكون بذلك من الخاسرين. إن الشعب التونسي على غاية من الوعي ولا يمكن شراء هممه وذممه ترغيبا أو ترهيبا وهو منذ 17 ديسمبر 2010 قد عرف طريقه: "لا ظلم بعد اليوم" فلا تجروه للخروج من جديد للدفاع عن سيادته وكرامته وحريته وخبزه ومائه وأرضه ونصيبه من الكعكة الوطنية. إننا لسنا في غزوة بدر لكي يتقاسم البعض من الناس مغانم الحرب، إننا شعب واحد ديننا الإسلام ولغتنا العربية وثورتنا كانت ضد الطغاة من الفاسدين والمفسدين فلا تفسدوا عنا هذه النعمة التي أنعم بها الله علينا ولا تجعلوها تذهب في غفلة منا ونحن نجادل في الترهات وفي ما لا ينفع الناس والمجتمع تاركين جانبا أمهات القضايا وأصولها كالأمن الغذائي وحفظ الحدود من الجريمة والإرهاب العابرين للقارات والحد من البطالة وزرع بذور الخير والإحتكام الى القانون في كل شيء دون غبن ولا إسراف. بقلم الاستاذ: منصور السويبقي دكتور في القانون العام والتحليل السياسي