بقلم: د. كوثر دباش بعد الهدوء الساخط طيلة السنوات العجاف، جاء صخب المخاض، كم أن مخاض الديمقراطية عسير. مشاريع تعد، تحالفات تنسج ثم تهدد بالتفكك و الشعب ينتظر ما سيسفر عنه هذا الجدل الذي نحسبه لا ينتهي حول التنظيم المؤقت للسلط العمومية، بين مشروع هيئة الخبراء الذي لفظه بعد أعضاء التأسيسي معتبرين إياه شكلا من أشكال الوصاية ومشروع «الترويكا» الذي خاله البعض لم يتخلص من تركة الماضي، تركة الهيمنة والمشاريع التي تصاغ على المقاس... مقاس حزب بعد أن كانت تصاغ على مقاس شخص، جعلت أحد أبرز معارضي الأمس وأحد رؤساء اليوم الدكتور المنصف المرزوقي يصف تونس البارحة ب»الجملكية». لكن هل أن المشروع الأصلي للترويكا يبتعد كثيرا عن الجملكية بما أنه استند إلى الموقع الشرفي لرئيس الجمهورية في النظام البرلماني لكن لا ليجعل منه الحكم بين البرلمان والحكومة بل ليجعل منه في أفضل الأحوال لاعبا على مقعد الاحتياط؟ وككل المسائل الخاصة والعامة في تونس هذه الأيام، من حمل النقاب في الجامعة وحرية التعبير، كانت مسألة التنظيم المؤقت للسلط موضع استقطاب وتجاذب بين اتجاهين، اتجاه يركز على الطابع المتغول في تركيز النص للسلط بيد رئيس الحكومة واتجاه يذكر بحق صاحب الأغلبية في فرض رؤيته كائنا من كان وان تلك قواعد اللعبة الانتخابية وانه لو كانت موازين القوى مختلفة وفازت الكتلة التي هي اليوم في المعارضة لكانت ستختار من التقنيات ما سيدعم موقعها. وإذا حاولنا أن نقف على نفس المسافة من هذا الاتجاه وذاك، وهذا غير هيّن، فعلينا أن نقر بأن موقع الحكومة في المشروع هو جوهر المشكل. الحكومة التي تعني في تعريفها الواسع النظام السياسي وفي تعريفها المادي ممارسة سلطة القرار في الدولة وفي تعريفها الهيكلي، بالنظر إلى النظام البرلماني الذي ظهر فيه مفهوم الحكومة، تلك الهيئة الجماعية المتكونة من الوزراء وكتاب الدولة تحت إشراف الوزير الأول، هيئة متضامنة حول برنامج تتفق عليه ويزكّيه البرلمان وتكون مسؤولة أمامه ويمكن أن تكون في بعض الأنظمة مسؤولة أمام رئيس الدولة. ومهما كان النظام السياسي، تحيل الحكومة إلى قوة التنفيذ وذراع السلطة، تاريخها في تونس مرتبط بالقطيعات مع التواصل بما أنها كانت تدور في فلك رئيس الدولة طيلة عقود من الزمن وجاء المشروع ليجعل منها القوة المحركة للنظام وإن كان بصفة مؤقتة. لكن طالما أن التاريخ ينبؤنا بأن المؤقت يرسم ملامح الدائم حري بنا أن نتساءل عن مواضع اختلال التوازن الذي أقره المشروع رغم تعديلاته في هذا الهيكل الهام من أعمدة الدولة. قراءة نص المشروع الذي أعدته لجنة التنظيم المؤقت للسلط في صيغته الأصلية، و حتى بعد التعديلات التي أدخلت عليه، تذكرنا بذلك الوصف الفقهي للنظام البرلماني بأنه ميزان يحمله رئيس الدولة بيده، كفتاه هما البرلمان والحكومة، ثقله هو القوة القاهرة التي تتمخض عنها الانتخابات والتوازن يقيمه رئيس الدولة بنقل الموازين لناحية أو لأخرى ولكن الميزان يحمله هذه المرة المجلس التأسيسي وأخشى ما نخشاه أن يرجح الثقل كفة الحكومة إعتدادا بثقل الإنتخابات والأغلبية، ثقل نجد صدى له على الصعيد الهيكلي في مستوى تكوين الحكومة وعلى الصعيد الوظيفي ثانيا في مستوى صلاحياتها.
تكوين الحكومة
يطرح تكوين الحكومة تساؤلات حول كيفية تشكيل الحكومة بما تثيره المسألة من نقاط استفهام حول منح الثقة ومسألة الجمع بين عضوية المجلس وعضوية الحكومة. فعلى مستوى منح الثقة، بيّن دستور 1959 الذي كان ينص على أن «رئيس الجمهورية يعيّن الوزير الأول كما يعيّن بقية أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأول» إلى مشروع دستور صغير ينص على أن رئيس الجمهورية يكلّف مرشح الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي بتشكيل الحكومة بون شاسع هو الفاصل بين النظام الرئاسوي الذي أنت تحت وطأته تونس عقودا طويلة وبين النظام البرلماني الصرف الذي تريد الكتلة الفائزة في الإنتخابات تمريره واقتراحه كبديل. هذا أمر لا يضير لأن النظام البرلماني هو نظام توازن إيجابي بين السلط يفترض إقامة ضوابط وموازين رغم أن الحكومة هي محوره الأساسي ورغم أن نجاحه في بعض الدول هو وليد نضج تاريخي ومن الصعب نقله بحذافره في تونس التي لم تعرف قط تجربة للنظام البرلماني باستثناء مشروع الملكية الدستورية الذي أعده المجلس القومي التأسيسي قبل الإعلان عن الجمهورية. إذا، إلزام رئيس الجمهورية بتعيين رئيس الحكومة من حزب الأغلبية أمر معهود في الأنظمة البرلمانية التي لا يتمتع فيها رئيس الدولة بهامش حرية يسمح له بالاختيار فعلا طالما أنه يسود ولا يحكم ولكن من الطريف بل الغريب أن يقع التنصيص صراحة على ذلك في نص المشروع خلافا للدساتير البرلمانية في أوروبا التي تركت المسألة للأعراف الدستورية كما هو الحال في اسبانيا، فهل خشي من التراجع في الاتفاق بشأن الرئاسات الثلاث ؟ ربما. لكن التنصيص على ذلك يعدّ من باب التزيد بالنظر إلى الأغلبية التي وقع اشتراطها لمنح الثقة وهو أمر يستحق الوقوف عنده. فحصول الحكومة على تزكية المجلس أمر معهود أيضا وإن كانت بعض الدساتير البرلمانية تشترط حصول رئيس الحكومة فقط على الثقة كما هو شأن الدستور الإسباني، ومن الأنظمة من يشترط تصويتا مضاعفا لمنح الثقة لرئيس الحكومة ثم للحكومة التي يشكلها كما كان الشأن في الجمهورية الرابعة في فرنسا. مشروع دستورنا الصغير يقتضي منح الثقة للحكومة التي يشكلها رئيس حزب الأغلبية وبالأغلبية المطلقة حال أن سحب الثقة يكون بأغلبية الثلثين. هذه المسألة يجب النظر فيها لا فقط من الناحية القانونية بل بالنظر إلى تركيبة المجلس فالتصويت بالأغلبية المطلقة فقط أي 50 % زائد واحد لمنح الثقة على أساس قرينة الانبثاق من إرادة الشعب تحمل محاذير خاصة على ضوء الإنضباط الحزبي الذي تدعو إليه الأحزاب والذي يجعل الحصول على 109صوتا أمرا يسيرا بالنسبة لحزب حاصل أصلا على 89 مقعدا. لا يتعلق الأمر هنا بالتحريض على عدم الإنضباط الحزبي لأن التأطير الشديد للأحزاب السياسية في مجلس العموم يعتبر من أحد أسرار نجاح النظام، إذ يوجد ضمن كل حزب نواب منشطون يبلغون زملاءهم التعليمات المتعلقة بالتصويت التي تصدر عن قيادات الأحزاب ويتكلفون بالسهر على احترام الإنضباط. لكن شتان ما بين النظام البريطاني العريق في الديمقراطية وبين التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس وشتان ما بين مجلس العموم في بريطانيا وبين المجلس التأسيسي في أم الثورات، منوطة بعهدته أمهات المهام تقتضي وعي أعضائه بأنهم نواب عن الشعب التونسي لا عن أحزابهم ولعل الخلافات التي نشبت بين نوّاب التحالف الثلاثي في لجنة التنظيم المؤقت تبشر باستفاقة نرجو أن تدوم. من الضروري إذا إعادة النظر في مسألة منح الثقة وترشيدها في إطار احترام مبدأ توازي الصيغ والأشكال على أساس المماثلة بين تصويت منح الثقة للحكومة وسحبها منها فإما أن تنزل في الحالتين إلى الأغلبية المطلقة أو أن تعزز في الحالتين بأغلبية الثلثين وليس من المعقول أن يكون تسلم السلطة أسهل بكثير من تسليمها.
مسألة الجمع بين عضويتين
المسألة الثانية التي تستحق النظر هي مسألة الجمع بين عضوية الحكومة وعضوية المجلس الوطني التأسيسي و هي من بين النقاط الخلافية التي أثارت كثيرا من الجدل على أساس أنه كيف يمكن أن يكون نفس الشخص خصما وحكما، يشرع وينفذ وأن هذا التداخل الهيكلي أمر مستهجن من وجهة نظر مبدأ الفصل بين السلط. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن السماح بالجمع يؤهل نفس الشخص لكي يشرّع وينفّذ ويؤسّس، يجمع بين الوظائف التأسيسية والوظائف غير التأسيسية، يحمل وزر الوزارة وعبء التشريع ومهمة التأسيس، كيف يمكن ألا تئن ظهور النواب الذين سيقع اصطفاؤهم لعضوية الحكومة تحت وطأة كل هذه المهام وكيف يمكن أداؤها جميعا بالإقتدار المطلوب؟ الاحتياط الذي اتخذه المشروع بعدم السماح للنائب الوزير بعضوية مكتب المجلس واللجان القارة ثم، في صيغته المعدلة، بالمشاركة في التصويت على لائحة اللوم لا يكفي لكي يقي الأعضاء عناء تحمل كل هذه المسؤوليات. لكن من الناحية القانونية الجمع ممكن ولم يكن ممنوعا في تونس بأي نص بل انه يعتبر مرة أخرى من بين تقاليد النظام البرلماني فالعرف في بريطانيا جرى على ذلك على أساس القاعدة التي تمنع الوزراء من دخول الغرفة التي لا ينتمون إليها. ومن الناحية النظرية، تبرر إمكانية الجمع بين عضوية الحكومة وعضوية البرلمان بأن الوزراء هم مجرد مفوضين عن السلطة التشريعية يقف دورهم عند تنفيذ القرارات الصادرة عن صاحب السيادة وبالتالي من الطبيعي أن ينبثق الوزراء عن البرلمان كي يتمتعوا بالمشروعية خاصة أن البرلمان هو عادة المؤسسة المنتخبة بالاقتراع العام والمباشر وهو الذي يحظى بالتمثيلية الحقيقية لإرادة الشعب وسيادته ومن الطبيعي الجمع لجعل نشاط الحكومة مشروعا. إذا، تبقى مسألة الجمع من عدمها خيارا أساسيا لكن التساؤل الذي يطرح : في صورة وقع إقرار حظر الجمع هل نتصور أنه بعد أن وقع توزيع الحقائب الوزارية في الاتفاق الثلاثي سيقبل النواب الوزراء «التضحية» بالوظيفة التأسيسية، والعبارة للجنرال دي غول DE GAULLE؟ يبدو أن التضحية بحقيبة وزارية السباق من أجلها كان محتدما والتضحية بوظيفة تأسيسية تاريخية أمران أحلاهما مر والمرارة أيضا قانونية، إذ إذا وقع إقرار حظر الجمع واختار النائب الحقيبة الوزارية كيف سيتم سد الشغور ؟ اللجوء إلى تنظيم انتخابات جزئية أمر مستبعد. يظل إذا حل إسناد المقعد إلى المترشح الذي يلي النائب المتخلي في القائمة الانتخابية وهو حل معمول به في النظام الفرنسي الذي كرس حظر الجمع وأقر تعويض العضو بمجلس الشيوخ الذي يدعى إلى منصب وزاري بالمترشح الذي يليه في القائمة إذا كان الانتخاب قد تم على أساس الاقتراع بالتمثيل النسبي. تطبيق هذا الحل ممكن في تونس لكنه لا يخلو من محاذير مرتبطة بتكوين القائمات المترشحة للانتخابات التأسيسية إذ أن طريقة الاقتراع المعتمدة أجبرت الأحزاب على وضع أسماء كفاءاتها في رأس القائمات ثم تطعيمها بأسماء أشخاص لا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بالشأن التأسيسي. وفي كل الأحوال، عدم التوازن الذي تلوح ملامحه في هيكلة الحكومة ينجلي بأكثر وضوح من خلال الصلاحيات المسندة إليها. الكاتبة العامة لمركز تونس للقانون الدستوري من أجل الديمقراطية