عاجل: هذه تفاصيل الأحكام ضد الموقوفين الثمانية في قضية التسفير    قفصة: افتتاح فعاليات الورشة الوطنية للمشاريع التربوية البيداغوجية بالمدارس الابتدائية    عاجل: ألمانيا: إصابة 8 أشخاص في حادث دهس    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تحسّن وضعية السدود    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    مع الشروق : ترامب.. مائة يوم من الفوضى !    أخبار الملعب التونسي : غيابات بالجملة والبدائل مُتوفرة    وزير الشباب والرياضة يستقبل رئيسي النادي الإفريقي والنادي الرياضي البنزرتي    عاجل/ من بيهم علي العريض: أحكام بالسجن بين 18 و36 سنة في حق المتهمين في قضية التسفير..    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    في افتتاح مهرجان الربيع لمسرح الهواة بحمام سوسة... تثمين للمبدعين في غياب المسؤولين    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    لماذا اختار منير نصراوي اسم 'لامين جمال" لابنه؟    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    أجور لا تتجاوز 20 دينارًا: واقع العملات الفلاحيات في تونس    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    معرض تونس الدولي للكتاب يختتم فعالياته بندوات وتوقيعات وإصدارات جديدة    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    تعاون ثقافي بين تونس قطر: "ماسح الأحذية" في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    عشر مؤسسات تونسية متخصصة في تكنولوجيا المعلومات ستشارك في صالون "جيتكس أوروبا"    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محور المنزع العقلي في الأدب العربي القديم
اختبار في مادة العربية
نشر في الشعب يوم 02 - 06 - 2012

الموضوع: لقد كان التوحيدي وهو يخوض في قضايا عصره يؤسس لمقاربة عقلية موقفا وغاية إنسانية و أسلوب كتابة.
توسع في هذا القول وابد رأيك فيه باعتماد شواهد دقيقة من نصوص «الإمتاع والمؤانسة»و»المقابسات».
المقدمة:
لم يكن الأدب العربي – كما يدعي البعض- أدب متعة وخيال وصنعة فنية فحسب بل كان إلى ذلك أدب فكر وعقل تشهد على ذلك كثير من المصنفات النثرية ومنها نصوص أديب القرن الرابع للهجرة أبي حيان التوحيدي والتي بلورت مقاربة عقلية لقضايا عصره إن في مستوى المواقف أو الغايات الإنسانية أو أسلوب الكتابة.فما هي أسس هذه المقاربة؟وكيف تجلت على مستوى خصائص الكتابة؟وهل ارتقت فعلا إلى درجة من التماسك النظري؟
الجوهر:
حقا لقد بلغت الكتابة النثرية القديمة مع أبي حيان التوحيدي أوج تطورها فاتسمت بطابع عقلي واضح برز في ما عبرت عنه من مواقف كما برز في أساليب الكتابة على حد السواء.
تنوعت مشاغل التوحيدي في المقابسات والإمتاع وتعددت مجالاتها فجمعت بين السياسي والاجتماعي والديني و الثقافي.وتحتل القضايا السياسية حيزا هاما من هذه النصوص ولا سيما في الإمتاع.وأول ما اعتنى به التوحيدي في هذا الباب هو تشخيص علل الواقع السياسي في عصره ورصد مظاهر الوهن فيه والمتمثلة في تراجع هيبة السلطان وما ترتب عنها من تطاول العامة عليه بالتعريض والتجريح والخوض في أسراره وقد صور «ابن سعدان» ذلك شاكيا حاله :»قد والله ضاق صدري لما يبلغني عن العامة وخوضها في حديثنا وذكرها أمورنا وتتبعها أسرارنا».وقد أرجع التوحيدي ذلك إلى عدة أسباب منها عدم نهوض السلطان بواجباته وانشغاله عن شؤون رعيته وإغراقه في حياةاللهو والمجونف»قد أضرب السلطان عن ذلك لانهماكه في حياة القصف والعزف وإعراضه عن المصالح الدينية والخيرات السياسية».ولم يكتف التوحيدي بذلك التشخيص بل لقد حرص على أن ينصح الوزير فقدم له جملة الشروط المطلوبة في الحاكم الرشيد ومنها الخبرة بمجال السياسة والاتعاظ بأحوال الممالك إذ «ليس في أبواب السياسة شيء أجدى وأنفع وأنفى للفساد وأقمع من الاعتبار الموقظ للنفس».كما دعاه إلى الحزم والعزم في مباشرة الأمور ونبهه من عواقب الإدمان على الملذات لأن الادمان يذهب الهيبة بين الحاشية والعامة ويبعث على الاستهتار ويطمع الأعداء.ولم يفت صاحب الامتاع تحذير الوزير من خطورة الاستبداد بالرأي وحثه على الاسترشاد بأهل الثقة من العارفين قائلا:»وتجنب التفرد بالرأي والاستبداد بالأمر وافزع إلى الله في الاستخارة وإلى الثقات بالاستنارة ولا تبخل على نفسك برأي غيرك».وقد تصدى التوحيدي لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الراعي والرعية فأكد أن صلاح الرعية بصلاح سلطانها وجعل مسؤوليته في ذلك أعظم منطلقا من كون «الرعية وديعة الله عند سلطانها وأن الله يسائله عنها كيف سستها؟ولعله لا يسألها عنه وإن سألها فليؤكد الحجة عليه منها»
وفي الجملة فقد استطاع أبو حيان تشخيص واقع الساسة في عصره والنفاذ الى علله بعمق وجرأة وموضوعية ولم يقف في حدود ذلك بل راح يجترح السبل المؤدية الى اعتدال العلاقة بين الحاكم والمحكوم يدفعه في ذلك حرصه عل شيوع العدل وازدهار العمران.
تلك مقاربة التوحيدي لوضع عصره السياسي فهل التزم بذات التمشي العقلي في تصديه للأوضاع الاجتماعية؟
لم يكن الواقع الاجتماعي ليختلف عن نظيره السياسي لما بينهما من علاقة جدليةفقد اتسم هو الآخر بالتدهور والمتتبع لنصوص التوحيدي يقف على ما رصده من مظاهر الخلل لعل أبرزها ما ذكره من استفحال الهوة الطبقية بين الأرستقراطية وعامة الرعية وهو ما تجرأ التوحيدي ونقله إلى الوزير ناطقا باسم العامة: «اجتمع الناس اليوم على الشط فلما نزل الوزير ليركب المركب صاحوا وضجوا وذكروا غلاء القوت وعوز الطعام وتعذر الكسب وغلبة الفقر وتهتك صاحب العيال».وقد كشف أبو حيان ما كانت تعانيه العامة من ضرائب مجحفة وما تقاسيه من احتكار التجار وغلاء المعيشة فضلا عما تلقاه من تسلط الحكامفتكلم بلسانهم في حضرة ناقلا شكواهم وتبرمهم :»طرقنا مخوفة ومساكننا منزوعة ونعمنا مسلوبة وحريمنا مستباح».وقد كان لهذا الوضع أثره على القيم الأخلاقية التي انقلبت في العصر ف»صار المعروف منكرا والمنكر معروفا» وفسدت أخلاق العامة والخاصة وفشا النهب والسرقة وغاب الأمن.ولكن أشد ما أزعج صاحب «المقابسات»ما لاحظه من استفحال أمر الشعوبية والتعصب العرقي مما أذكى روح النزاع والصراع بين مكونات المجتمع فصار مهددا بالتفكك والانقسام.وقد نقد التوحيدي هذه الواقع بجرأة شديدة فحث أهل السلطة على الرفق بالرعية كما رفض النزعات «الأقوامية» واعتبر أن الفضائل والرذائل مقسومة بين بني البشر بغض النظر عن لونهم وعرقهم ولغتهم وفي مقابل هذه المعايير العنصرية جعل أبو حيان العقل معيارا للتفاضل بين الناس لأنه أعدل الأشياء قسمة بينهم ولأنه يعلو على الاعتبارات العرقية والقبلية والدينية والمذهبية وغيرهايقول:»إن المدار على العقل الذي من حرمه فهو أنقص من كل فقير»
نخلص مما تقدم إلى أن أبا حيان قد أبدى إلماما شاملا بتعقيدات وضع عصره الاجتماعي وبالعوامل الكامنة وراء تدهوره وأظهر جرأة عالية في معالجتها برؤية المفكر الاجتماعي الذي يزاوج بينتشخيص الداء واقتراح الحلول.
وبقدرما كان الواقع السياسي والاجتماعي شديد التدهور كان الوضع الثقافي والفكري شديد الخصوبة فقد شاعت فيه مجالس الأدب والفكر ونشطت الحركة الفكرية فتعددت المناظرات التي وضعت مختلف الظواهر والمشاغل من أبسطها إلى أعقدها ومن أتفهها إلى أشرفها وضعتها على بساط البحث والنظر العقلي. ولا شك أن ابا حيان قد كان منخرطا في هذا المناخ الفكري حضورا ومشاركة بل لقد استطاع بحسه المرهف وثقافته الموسوعية وبنظرته العقلانية أن يحسم في كثير من المسائل الخلافية المطروحة في عصره.
ومن الاشكاليات التي الهامة التي عرض لها أبوحيان اشكالية العلاقة بين الفلسفة والشريعة وقد عالجها بطريقة حاول من خلالها تخطي النزعات الايديولوجية والافكار الجاهزة فقرر «أن الفلسفة حق لكنها ليست من الشريعة في شيء والشريعة حق ولكنها ليست من الفلسفة في شيء» وهو ما يعني أن لكل منهما مشروعية رغم اختلاف مجالاتهما وقد ميز التوحيدي بينهما بوضوح من حيث المنهج والموضوع والمصطلحات والمرجعيات ويهمنا في ذلك أنه جعل المعرفة العقلية طريقا موصلة الى الحق ويستوي في ذلك مع الوحي وهو موقف لا شك متقدم على عصره الذي هوجمت فيه الفلسفة وبدع الفلاسفة وسيطرت فيه الأفكار الصوفية والباطنية.
ولقد برزت عقلانية التوحيدي كأوضح ما يكون في موقفه من المذاهب واختلافها فاعتبر أن تعدد المذاهب واختلافها ظاهرة طبيعية بل هي إيجابية لأن الاختلاف بين البشر فطري بحكم اختلاف عاداتهم وطبائعهم وظروف عيشهم وبحكم تفات عقولهم يقول:»لما كانت المذاهب نتائج الآراء والآراء ثمرات العقول والعقول منائح الله للعباد وهذه النتائج مختلفة بالصفاء والكدر والكمال والنقص..........»ومع ذلك نبه التوحيدي الى خطورة انزلاق أتباع المذاهب إلى التعصب والتكفير والتفسيق وهو ما من شأنه أن يحول الاختلاف الى نقمة على الجميع. والحقيقة أن هذا التحليل كاشف عن إيمان أبي حيان بحق الاختلاف ومشروعيته من جهة وبحرية التفكير والإبداع من جهة ثانية كما يعبر عن وعيه بأن حرية الاختلاف «تبلغ بالإنسان كل مبلغ» متى نجح المختلفون في إدارة خلافهم على نحو عقلاني.
والذي نستخلصه من تصفّح مقاربة التوحيدي لقضايا عصره المختلفة أنّ هذه المقاربة قد انبنت على رؤية عقليّة قوامها المعرفة الواسعة والإلمام الشّامل والعميق بما يتصدّى له بالنظر من موضوعات أوّلاً والموضوعيّة في الحكم عليها ثانيا والجرأة في الإفصاح عن مواقفه النقديّة ثالثا وقد كانت هذه الرؤبية محكومة بموقف انسانيّ غايته التّرقّي بالشّرط الّري / بالانسان إلى ما فوق الاعتبارات العرقيّة والدينية والمذهبيّة وتحقيق سعادته الدّنيوية.
على أنّ هذه المقاربة العقليّة تتجاوز الموقف والغاية لتحلّ في أسلوب الكتابة ووسائل «المنافحة على جملة هذه المواقف. فأين يبرز ذلك؟
إنّ أوّل مظهر لهذه النّزعة العقلية في الكتابة يبدو في عدول التوحيدي عن الصّنعة الأدبيّة وميْله إلى الخطاب الحجاجي وهو ما يبرز في نداء النّصوص على خطّة حجاجيّة تتدرّج من الأطروحة المدعومة إلى سيرورة الحُجاج وصولاً إلى استناج أو خلاصة أو عبرة ومثال ذلك ما سار عليه عند تناول مسألة الفلسفة والشريعة.
كما قد يعمد أحيانا الى الانطلاق من أطروحة مدحوضة يتولّى في مسار الحجاج بيان وجوه تهافتها لنتهي الى إثبات أطروحة بديلة وكذا فعل في مناظريّة مع «ابن عبيد» حول «البلاغة والحساب».
وللنزعة العقليّة حضورٌ في قيام النصوص على بنية حواريّة اقتضتها طبيعة المسامرات في «الامتناع» و«المحاورات والمقاسات» فشاعت الأسئلة من جنس ما النفس وما الحسد؟ و«حدثوني لِمَ احتاجت الطبيعة إلى الصناعة؟» أو «سُئل ابن سوار» عن «روح أبي حيان التساؤلية التي «تعشق الجدل ولا تكف عن اثارة السؤال تلْوَ السؤال».
وليس الاستفهام وحده ما ميّز لغة صاحبنا إذ تكثر في نصوصه التراكيب الشرطيّة وتتعدّد دلالاتها بين الإمكان والافتراض والاستنتاج والمقابلة.. فيوظفها لدعم فكرة أو دحض أخرى كقولة مدافعًا عن ضرورة الرّبط بين العلم والعمل: «ومن لَزِمَ العلم وخلاهن العمل كان كلابيس ثوبي زورٍ» وإلى الشرط ينضاف أساليب التوليد والتّعليل والتّفسير وغيرها... ممّا يخدمُ الوظيفة الإفهاميّة والإقناعيّة.
أمّا جملة التوحيدي فينشرُها فواصل قصار متناسية الطول يكثر فيها الإزدواج والتوازن التّركيبي وهي لاشك أشّد أثرًا في النفس وأغلق بالذّهن وأيْسر في الحفظ. ومثال ذلك قوله ناصحًا الوزير «وأفزع الله في الاستخارة وإلى الثقاتِ بالاستنارة».
ويستعينُ التوحيدي لتوكيد المعنى وتجليته بالصّور الحسيّة فتكثر عنده الاستعارات والتشابيه وشتّى أنواع المجاز والأمثلة على ذلك كثيرة لعلّ أشهرها تصويره البليغ للحاشيّة «هؤلاء سباعٌ ضاريةٌ وكلابٌ عاويةٌ وعقاربُ لساعةٌ وأفاعٍ نهاشة».
ويعمدُ التوحيدي في حجاجه الى استخدام الأقيسة المنطقيّة والمقارنات للإبانة والاستدلال لأنّ الأمور تتوضّح بأضدادها وما يخالفها فانظره وهو يدافع عن الحرية المذهبيّة كيف يعمد إلى مقارنة المذاهب بالأديان قائلا «إنّ المذاهب فروع الأديان والأديان أصولُ المذاهب فإذا نساغ الاختلافُ بين الأدياتن وهي الأصولُ فلِمَ لا يسوغُ في المذاهب وهي الفروع؟».
ومن أبرز ما يقوم عليه أسلوب التوحيدي ولعُه بالتوليد السقراطي للمعاني فينتقلُ بين الأفكار المترابطة من أبسطها إلى أعقدها ومن أخفاها إلى أظهرها ويندرج بالمخاطب من المسلّمات إلى ما يجب التسليم وأيّة ذلك ما قام به حين أراد أن يُعدّل موقف الوزير السلبيّ من اختلاف المذاهب يقول: «لمّا كانت المذاهب نتائج الآراء والآراء ثمرات العقول والعقول منائح اللّه للعباد وهذه النتائج مختلفة بالصفاء والكبر والكمال والنقص...».
كما يوظف أبو حيان القصص ويضرب الأمثال استدلالاً على أفكاره فيتحدّث الوزير عن إدمانِ كسرى ليحذره من عواقب الإدمان أو يضربُ مثل العميان والفيل ليؤكّد على نسبية المعرفة الحسيّة.
وأيًّا كانت المسألة التي يتناولها التّوحيدي فإنّنا نجدُه حريصًا على التوسّع والدقّة ميالا الى التفريع والتقسيم مسهبًا في تتبّع التفاصيل واستقراء الجزئيات حتّى تكون المسائل واضحة أمام المحاجج من جميع جوانبها ولنا على ذلك أمثلة كثيرة منها مقالته في رسم التمايز بين الفلسفة والشريعة أو بحثه في خصائص النثر والشعر أو تصدّيه للبلاغة والحساب.
وليس الحجاج في «المقايسات» و«الامتاع» تمشيّا في الكتابة فحسب بل هو حاضر أيضا وبقوّة من خلال غزارة الحجج وتنوعها على نحو يدل على ثقافة إنسانيّ{ واسعة منحضر الحجج الواقعيّة والتاريخية والدينية والعلميّة وحَجَجُ الشواهد القولية.. يراكمها لمحاصرة المحاجج وإفحامية وإقامة الدّليل على متانة الفكرة ووجاهتها.
تؤكّدُ مُجمل هذه الخصائص الأسلوبيّة عدول أبي حيّانٍ عن مألوف الصّنعة الأدبيّة في الكتابة النثريّة وميله إلى مُلاءمة المعالجة الأسلوبيّة لطبيعة المشاغل الفكريّة في كتابي «المقايسات» و«الإمتاع» وهو ما دفع البعض الى إطلاق بتسمية النثر العلمي أو العقليّ على مثل هذا النمط من الكتابة ولعلّ هذا هو السّر وراء تلقيب التوحيدي بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدبلاء».
نقْدٌ وتقويمٌ:
ومع ذلك هل يمكن الجزم نهائيًّا بأنّ الكتابة في نصوص الامتاع» و«المقابسات قد تمخّضت فعلا للعقل فكرًا وصياغة»؟
تجدرة الاشارة أوّلا إلى أنّ هذه النصوص ورغم انفتاحها على مباحث عقليّة جديدة ورغم ما اقتضته من عدول عن الصّنعة الأدبيّة فإنّها لم تمثّل قطيعة مع مقومات الكتابة النثريّة الفنية بل ظلّت مشدودة إليها إذ يغيب الرّوح الحجاجيّة في كثير منها وخاصّة في «الإمتاع» فتتحوّل المسامرات إلى مراكمة للحكايات والأخبار والأمثال والأسعار يتوسّل بها المؤلف إلى إبهاج الوزير من جهة واستعراض سعة ثقافته من جهة ثانية.
ولغة التوحيدي ذاتها تجنحُ في الكثير من النهصوص إلى الزخرفة اللّفظية والتنميق اللاغي الهادف إلى الإبهار والإمتاع. وقد ينزاح في الكثير من المسامرات الى عرض الملح والنوادر والطرائف لغاية التفكه طلبًا للترويح عن النّفس فتختفي الوظيفة الحجاجيّة تمامًا.
هذا من جهة الصّياغة أمّا من جهة المواقف الفكريّة فإنّ التوحيدي لم يرتق في الكثير منها إلى ما يقتضيه النظر العقلي من موضوعيّة وجرأة. فلئن اعتبر التّوحيدي نصْح السلطان واجبًا على المثقف تمليه عليه مسؤوليته الفكرية والتاريخيّة فقد رهن هذه الخدمة بالمنفعة الماديّة فجعل أدبه «سببًا قويًّا على حسن الحال وطلب العيش» كما صرّح بذلك في «الإمتاع» ولعلّ هذا ما قد يدفع بالمثقف الى التضحية باستقلاليّته الفكرية فينساق أحيانًا الى الخطاب التمجيدي المجاني للسلطان وهو ما قد يُفسّر انسياقُه في حضرة الوزير إلى اعتبار السلطة السياسي نوعًا من «الفيض الإلهي على ذات السلطان الإمام» فزعم أنّ «الملك مبعوث كما أنّ صاحب الدين مبعوثٌ».
ورغم ما أبداه التوحيدي من موضوعيّة عند تناوله لمسألة التفاضل من الأّمم كما سبقت الإشارة إليه فقد انتهى إلى موقف لا يخلو من التعصّب للعرب حين رفع مكانتهم الى درجة التقديس قائلا «والعربُ قد قدسها اللّه عن هذا الباب بأسره وجعلها على أشرف الأخلاق بقدرته...».
أمّا في مسألة الفلسفة والتشريعة فقد رأينا التوحيدي يقدّم تحليلاً معمّقا شاملاً لهذه الإشكاليّة ولكنّه بالغ في الإصرار على ضرورة بين المجالين فنفى أيّ إمكانيّة: للتفاعل بينها وهو ما قاده الى الاستخفاف بجهد «إخوان الصّفاء» لتطهير الشريعة بالفلسفة لأنّها قد دُنّست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل الى غسلها الاّ بالفلسفة لأنّها حاوية للحكمة الاعتقاديّة والمصلحة الاجتهادية». ولسنا نرى لصرامة موقف التّوحيدي هذا من حجّة وجيهة لأنّ أبا حيان قد تغافل عمّا كان للفسلفة في العصور الوسطى من تأثير في العلوم الدينية كعلم الكلام وأصول القصّة وما فتحته من أبواب الاجتهاد في النصوص الدينية ممّا أسْهم في تحرير الفكر الاسلامي. ونحن نزعم أنّ مردّ تحامل التّوحيدي على إخوان الصفاء إنّما قد يعود إلى خلفيّته المذهبيّة والسّياسية ذلك أنّ إخوان الصّفاء» كانوا إلى التشيع ينتسبون ويمارسون عملا سياسيا سريّا يهدف إلى التّغيير في حين كان التوحيدي نسبيّا يمتعته قربه من السلطة من تقبّل أفكار إخوان الصفاء.
تأليف:
وعلى العموم فإنّ هذه الهنات لا تقلّل بأي حال من الأحوال من أهميّة ما عبّر عنه التّوحيدي من مواقف وقدّمه من تحليلات عقلانيّة هادئة لكثير من إشكاليات عصره السّياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. كما لانشكّ أنّه خطأ خطوة كبيرة بالكتابة النثريّة العربية في اتجاه استيعابها المستجدّات الفكر في القرن الرابع للهجرة.
الخاتمة:
ختامًا يمكن القول إنّ نصوص «المقابسات» و«الإمتاع» قد مثّلت محطّة هامّة من محطّات الكتابة النثريّة في الأدب العربي القديم وذلك بالنّظر لما أقحمه التّوحيدي من قوالب الكتابة الجديدة من جهة وبما أسّس له من تعالق بين الأدب ومشاغل العصر فتح أبوابه على هموم الانسان المختلفة بحثا عن تحقيق سعادته والارتقاء بشرط وجوده وهو في ذلك يواصل ما كان قد بدأه جيل ابن المقفع وجيل الجاحظ من بعده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.