إن الحركات "السياسية الدينية" توجد عادة في الديمقراطيات العريقة المستقرة في تخوم الحلبة السياسية وتتحرك على هامشها بعيدة جدا عن المركز بينما توجد اليوم في عالمنا العربي الاسلامي في المركز والصدارة كلاعب أساسي وفاعل رئيسي وهو وضع غير عادي بالمرة وينذر بهزات وخيبات ستدفع المصالح العليا للوطن والشعب والاجيال القادمة ثمنها باهظا. "الحداثيون" وصفقة المغفلين وأسباب هذا الوضع "اللاطبيعي" عديدة فقد وجدت هذه الحركات نفسها في مقدمة النضال الفعلي المباشر خلال فترة الدكتاتورية بحكم التركيبة الاجتماعية لمريديها واتباعها وبحكم العامل "التحميسي" والتجييشي للدين وتغلغله في المجتمع بينما اتبعت الحركات السياسية "الحداثية" و"العلمانية" طريقا اخر في النضال اثبتت الايام قصوره وعبثيته فالتركيبة الاجتماعية بورجوازية وبورجوازية صغيرة وحتى ارستقراطية لرموزها ووضعياتهم المستقرة (فهم أساسا محامون وأطباء وأساتذة جامعيون انتفعوا من المنظومة القائمة كثيرا) جعلت هذه الحركات تفضل الهرسلة والضغط على الانظمة القائمة على سياسة المواجهة مما أفقدها تدريجيا مصداقيتها لدى الرأي العام خصوصا وانها انجرت بسهولة غريبة الى "صفقة مغفلين" مع الانظمة الحاكمة حيث قبلت "اللعب" في المساحة الضيقة جدا التي تركتها لها هذه الانظمة وحصرتها فيها تدريجيا وذلك لتلميع صورتها أي الانظمة لدى الرأي العام الغربي وتخفيف الضغط عليها من قبل المنظمات غير الحكومية في الخارج، بل ان قسما كبيرا من هذه الحركات، اجهزت بنفسها على كل مصداقية واعتبار لها لما قبلت المشاركة في مهازل الانتخابات الصورية الكاريكاتورية بزعم عدم تفويت أي فرصة للتواصل مع الرأي العام التي تمنحها لها هذه المناسبات. كما ان بعضها مدفوعا بالخوف من التيارات الدينية قبل ما لا يقبل وهو التواطؤ بطريقة مباشرة او غير مباشرة مع الأنظمة القائمة في حربها على الحركات الدينية واغلاق الأعين عن الانتهاكات الفظيعة والوحشية التي تعرض لها أتباعها فاهترأت صورتها لدى الرأي العام الداخلي الى حد التلاشي وحتى النقمة عليها احيانا فكان ان خرجت من هذه "المحنة" التي عجزت عن التعامل معها بحكمة وبعد نظر في حالة افلاس تام بينما قدمت على مر عقود طويلة خدمة ثمينة جدا للانظمة القائمة بأن لمعت صورتها في الخارج وسهلت على البعض التعامل بنفاق مصلحي مع الدكتاتوريات من ذلك ان الرئيس الفرنسي شيراك ورئيس الجمعية العامة الفرنسية فيليب سوقان مثلا نوها مرارا وتكرارا ب"المعجزة التونسية" وذهب الأول الى حد التأكيد على أسبقية "الرغيف" على الحقوق السياسية للانسان. كما قدمت في نفس الوقت خدمة جليلة للحركات الدينية التي تبوأت مقعد المعارض الحقيقي والصلب للدكتاتوريات القائمة فكان من المنطقي والطبيعي ألا تجد صعوبة تذكر اثر الثورات في قطف ثمار الوضع الجديد الذي لم تشارك مباشرة في تحققه بشهادة زعمائها انفسهم من ذلك ان راشد الغنوشي نفسه صرح مرارا انه لم يكن لاي حركة سياسية او حزب ولا حركته أي دور ريادي في انفجار الثورة التونسية. مفاجأة؟ إلا ان المفاجأة الكبيرة او قل هي الصدمة التي حصلت في تونس دون ان يتوقعها احد هي الظهور المدوي للعلن لما يعرف بالتيارات السلفية وخصوصا السلفية الجهادية والضجيج المصم للاذان الذي تحدثه حولها والمثير للمخاوف داخليا وخارجيا. فلئن كان الامر شبه متوقع في مصر بحكم الانتشار الواسع للفقر والامية فانه لم يكن كذلك في تونس التي عرفت تحولا حضاريا حقيقيا بدفع من بورقيبة (ولو حاول البعض تنسيبه او نفيه) بحكم "الثورة" التعليمية والصحية وبرنامج تحديد النسل "التنظيم العائلي" واقرار مجلة الاحوال الشخصية وانفتاحنا على العالم بحكم الهجرة الى اوروبا التي مست عشر الشعب التونسي والسياحة واتقان نصف سكان تونس للغة ثانية هي الفرنسية. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل يصح الحديث فعلا عن مفاجأة؟ وهذا السؤال يجرنا الى جملة من الأسئلة الاخرى وهي ألم يكن بالامكان "قراءة" الامر وترصد الظاهرة قبل انبلاجها للعلن؟ وهل لم تكن هناك مؤشرات واشارات تسمح بتوقعها؟ وهل انه لم يكن من المتوقع بداهة ان يختفي خلف "الاسلاميين المعتدلين" إن صح هذا التعبير لا محالة إسلاميون على اقصى يمينهم يزايدون عليهم. صراع أجيال؟ إن ظهور أقصى اليمين هذا على يمين اليمين وعذرا عن الاضطرار لاستعمال مثل هذه المصطلحات بحثا عن وضوح الفكرة والتمشي أي ظهور السلفية على يمين النهضة كان من الممكن قطعا توقعه لولا فورة الأيام الأولى للثورة ونشوتها واحلام الحرية والانعتاق والديمقراطية التي رافقتها والتي أعمتنا عن حقيقة الواقع التونسي وتعقيداته. ف"أظافر" النهضة "تقلمت" لا محالة بحكم انخراطها في العمل السياسي على حساب العمل الدعوي وارتباطاتها الخارجية قطر والسعودية والولايات المتحدةالامريكية الخ وسقف مطالبها في أسلمة المجتمع التونسي قد انخفض كثيرا حتى قبل خروجها للعمل كحزب سياسي علني مهيكل ومعترف به كما ان قسما هاما من قياداتها قد "تبرجوز" (نسبة الى البورجوازية) بحكم الاقامة الطويلة في المهجر والاعانات والتمويلات الخارجية المختلفة مما يؤهلها للسير تدريجيا على خطى حزب العدالة والتنمية التركي الذي لم يمس الى اليوم أي رمز من رموز الحداثة والعلمانية في البلاد وامتنع عن أي خطوة ل"أسلمة" المجتمع التركي فما قد لا يعرفه البعض وما يخفيه اخرون حتما هو ان المشروبات الكحولية تباع في كل مكان تقريبا في تركيا وفي شهر رمضان حتى في متاجر المواد الغذاية وان المتشردين وحتى الشباب احيانا يقارعون الخمر في الطريق العام حتى في الشوارع الرئيسية للمدن الكبرى ولا احد يلتفت اليهم والمراقص وكباريهات "الستيربتيز" منتشرة تعج بروادها حتى الصباح ومحلات "البورنوغرافيا" مفتوحة للعموم الخ.. تنازلات تؤشر لمواجهات ان "التنازلات"العديدة التي اقدمت عليها النهضة خلال اشهر قليلة من امساكها بدفة الحكم التخلي على التنصيص على الشريعة في الدستور مثالا ستتواصل وتيرتها حتما بحكم الضغط الداخلي والخارجي وستبعدها اكثر فاكثر عن "شعارات" البدايات، أي فترة المراهقة السياسية تلك التي تتبناها حاليا الحركات السلفية وخصوصا الجهادية والسيد راشد الغنوشي محق في قوله "ان السلفيين يذكرونه بمراهقته" ولكنه كان من الاصح ان يضيف ان مثل هذه الحركات تذكره ايضا بفترة مراهقة حركته ولكن هذا الفاصل الزمني بين "المراهقة" ومرحلة "النضج" قد يحمل اخطارا جسمة على تونس اذا بقيت طريقة التعامل مع هذه الحركات هي نفسها تلك المعتمدة حاليا والتي ترتكز اساسا على حسابات حزبية وانتخابية اذ انه يؤذن بصراعات وشيكة قادمة بين "الاب" الناضج والابن "المراهق" فمن المسلم به ان هذه الحركات تضم بضع مئات وعلى اقصى تقدير بضعة الاف وانها لا تمثل في الواقع أي وزن شعبي او او انتخابي يمكن ان يحسب له أي حساب الا ان الوضع قد يتغير بسرعة وقد تصبح لاعبا اساسيا في الحلبة السياسية قريبا ان لم تكن قد اقتربت من ذلك الان. ف"الغزوات" المتكررة لهذه الحركات انطلاقا من "واقعة" كلية منوبة مرورا بجندوبة وسيدي بوزيد وقصر العبدلية بالمرسى انتهاء بالاعتداء المدوي على السفارة الامريكية قابلها تراخ واضح للسلطة في التعامل مع التعديات على القانون التي تحدث في كل مرة مما يشجع هذه الحركات على التصعيد المتواصل ممارسة وخطابا وهو ما احاطها بهالة مضيئة وجاذبية خلابة وأكسبها مصداقية لدى الشباب المهمش العاطل او المتعاطي لمهن هشة كما سمح لها بتغذية صفوفها في الفترة الاخيرة بعدد كبير من المنحرفين اعتبرهم ابوعياض من المنحرفين التائبين الذين هداهم الله ! جلبهم "غياب المساءلة" الذي تحظى به فاصبحت الغزوات ترافقها عمليات السلب والنهب والاعتداءات الخطيرة على اعوان الامن. كما ان هذه الظاهرة التي افرزتها في واقع الامر سياسة التهميش والتجهيل الممنهجة على امتداد حوالي ثلاثة عقود اضافة الى القنوات التلفزية لممالك البترودولار ترتكز حاليا وللاسف في انتشارها على وسائل الاعلام المحلية التي بقيت "تتبع الحدث ولا تخلقه" اذ ان عاما ونصفا من الحرية هي فترة قصيرة جدا غير كافية اطلاقا لتطوير الصحافة التونسية خصوصا بعد عملية التدمير الممنهجة لها خلال العهد النوفمري. فهي لم تنجح بعد في خلق آليات عمل جديدة وتطوير مفاهيم حديثة للاعلام، ولذلك فهي تلعب حاليا دور "رجع الصدى" لهذه الحركات. فهذه الاخيرة تخلق من حين لاخر "لاحدثا" un non-évènement من ذلك على سبيل المثال بعث "جمعية" الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" فباعثها هو شخص لا يتجاوز مستواه التعليمي الرابعة ابتدائي ولا يحسن حتى كتابة العربية وبالتالي منطقيا لا يمكنه فهم معاني القرآن بل تعاليم الدين ومقاصده. الا ان الامر مثل "حدثا" تناولته جميع وسائل الاعلام باسهاب وحظي صاحبنا بتوزيع الاحاديث الصحفية يمنة ويسرة كما اصبح أقل ظهور وأقصر خطاب ل"ابي عياض" او غيره من النكرات بالامس "حدثا" وطنيا مزلزلا. وكل يوم يبرز لنا "ابو..." جديد لتتسلط عليه الأضواء ماشرة. انها لعبة خطيرة جدا، فحتى محاولة "شيطنة" هذه الحركات تخدمها كثيرا اذ تكسبها اهمية اكبر ومصداقية اوسع، وتساهم في بقائها دائما في "دائرة الضوء" في مساحة لا تناسب حجمها الحقيقي ولا تستحقها اذ ان الطريقة الوحيدة الانسب في واقع الامر للتعامل معها هي السخرية ولا شيء غير ذلك حتى تعود الى حجمها والى مساحتها الطبيعية... أي اقصى تخوم الحلبة السياسية وتصبح "ديكورا" لا غير كالحزب الملكي او الحزب الامبراطوري في فرنسا وما شابههما من الحركات التي تجدف ضد تيار العصر والتاريخ وضد الحد الادنى من المنطق البشري و"معقول العقل" الانساني.