بلغ المشهد الأمني والسياسي في بلادنا درجة من التداخل والتناقض والخلط الذي لم يعد بالإمكان أن ندرك معه ما إذا كان يتعين علينا كتونسيين اليوم أن نتوجه بالشكر إلى من نصب نفسه إماما على جامع النور بدوار هيشر وهو يدعو أتباعه للجهاد ضدّ "كفار بلاده" لأنه فتح بصرنا وبصيرتنا على الواقع الجديد والخطير في بلادنا، أو ما إذا كان يتعين علينا شجب وإدانة واستنكار تصريحات المعني بالأمر الذي دعا الى الفتنة وجعل عموم التونسيين في حالة استنفار نتيجة الصدمة والخيبة التي ابتلوا بها.. لسنا نريد العودة إلى تلك اللقطات -التي لم تدم أكثر من بضع لحظات ولكن العالم تناقلها وسيتناقلها طويلا- ولكننا سنقول بكثير من الحسرة أننا نعيش حالة طوارئ قصوى، والأمر طبعا لا يتعلق بقانون الطوارئ الساري المفعول منذ 14 جانفي والذي وقع تمديده مجددا قبل أسبوع بثلاثة أشهر بسبب العنف رغم أنه لم يعد من الواضح جدوى هذا القانون، بل بحالة الطوارئ التي يعيشها التونسي اليوم في حياته اليومية وفي محيطه وذهنه أمام استفحال مظاهر العنف الذي تجاوز منذ فترة الخطوط الحمر. سياسة الهروب الى الامام والدعوات إلى عدم تهويل الامور لم تعد مقبولة لأنها بكل بساطة زادت القوى السلفية المتطرفة إحساسا بالقوة ومنحتها قناعة بأنه مهما كانت انتهاكاتها وممارساتها للعنف، ومهما استمرت في استغلال المنابر والمساجد لتمرير خطاباتها التحريضية، فإنها لن تمنع من ذلك. ولاشك أن الأمثلة والأحداث الخطيرة ليست ما يعوزنا في هذا المجال، وعلى سبيل الذكر لا الحصر مرت حادثة إنزال العلم تماما كما مرت أحداث العنف في الجامعة من تونس إلى سوسة والقيروان، إلى أحداث العبدلية والتاسع من أفريل وسجنان وأحداث السفارة الامريكية والصراعات للهيمنة على المساجد وغيرها مرور الكرام، بل أكثر من ذلك، فقد اعتبرت في نظر أصحاب القرار في بعض الاحيان مؤشرا ومبشرا بثقافة جديدة ستؤثث المشهد الديمقراطي في البلاد.. أحداث دوار هيشر دقت ناقوس الخطر وأكدت المخاوف الحاصلة بشأن ما يمكن أن يتحول إليه المشهد في البلاد إذا استمر على حاله. لسنا نكشف سرا إذا اعتبرنا أن إسقاط الدكتاتورية وإنهاء مرحلة الظلم والفساد والاستبداد كان الخطوة الأسهل حتى الآن وأن تحقيق أهداف الثورة وبناء المستقبل الذي يتطلع اليه جميع التونسيين دون استثناء سيكون الخطوة الأصعب والأعقد والأكثر تحديا. سنتعود حتما شيئا فشيئا على مظاهر اللحى والملابس الأفغانية المصنعة في الصين ضمن المشهد الجديد بعد أن باتت تغزو البلاد، فذلك من مظاهر الحرية الشخصية المشروعة أحببنا أم كرهنا طالما أنها ليست غطاء للعنف. ولكن هذا ليس منبت الداء، فالداء كل الداء في ما قد يخفى من نوايا وأفكار ومخططات ترهيبية تحت العمائم. قبل سنتين تقريبا خرج شباب تونس جنبا إلى جنب مع بقية مكونات الشعب ليقدم للعالم ملحمة رائعة في ثورته السلمية من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ولكن أيضا ضد الظلم والفساد والاستبداد، كل ذلك بعيدا عن أيّة مظلة حزبية أو نقابية أوغيرها، وآخر ما كنا نتوقعه اليوم ونحن نستعد لاحياء الذكرى الثانية لنهاية الطغيان أن فئة من شباب تونس تتجاسر على رفع السلاح في وجه إخوانهم من أبناء البلد وشركائهم في معركة الحرية لانهم يختلفون معهم في الرأي. حقيقة قاتمة ما في ذلك شك ولكنها قائمة ومخاطرها متجلية ولم يعد من مجال لتجاهلها أو التقليل من شأنها. ففي تونس اليوم شباب يرتمي في أحضان الموت باسم الجهاد، والعشرات إن لم يكونوا المئات يتنقلون إلى سوريا من كل المنافذ المتاحة بحثا عن "طريق الجنة" وغيرهم يتجندون لمحاربة "الكفار" في بلادهم. بعض الأصوات السلفية الغارقة في التطرف والتشدد في بلادنا قالت "اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا"، وبدورنا نقول: سمعنا منكم الكثير وقد آن الأوان أن تسمعوا بدوركم ما يجب أن تدركوا معه أن التونسيين الذين أجمعوا على إنهاء مرحلة الدكتاتورية لن يسمحوا بعودتها تحت أيّ غطاء كان وأن عجلة التاريخ لا يمكن أن تسير الى الوراء.. أخيرا، وليس آخرا، قد يكون من المهم أن نسمع مسؤولا في الحكومة يرد على صاحب الكفن الممدود للشباب التونسي بأنه ليس أهلا لإمامة مسجد، ولكن الأهم أن نرى عمليا من كل المسؤولين في البلاد، سلطة ومعارضة وفعاليات المجتمع المدني ومثقفين وأولياء أيضا، ما يرفع عنا حالة الطوارئ ويعيد الإحساس بالأمل إلى البيوت المستنفرة، وما يدفع لإنهاء الإجازة المفروضة على العقول وما يدعو للخلاص من الافلاس العلمي والسياسي والثقافي والديني، بل وحتى الإفلاس الاخلاقي الذي تغرق فيه البلاد، واستبدال التوابيت التي يروجون لها بين الشباب ويرهبون بها الأمهات بمنابر البحث والعلم والابتكار والابداع، الذي بدونه لا مجال للارتقاء إلى مراتب الدول المتقدمة، التي امتلكت مفاتيح تقرير مصيرها، وفرضت لها موقعا ومكانة بين الأمم...