بقلم: د. سليم بن حميدان - ينحو العديد من الساسة وقادة الرأي ومؤسسات الإعلام إلى التناول البسيط والسطحي المقترن بالأحكام الإطلاقية والمتسرعة للعديد من الظواهر الاجتماعية ومنها السلفية. وعادة ما تقف وراء مثل هذه الأطروحات استراتيجيات سياسية لا تكترث إلى حجم التوتر والخراب الذي تخلفه في مجتمعها بتوظيفها للظاهرة في معاركها مع فرقائها وخصومها دون أدنى اعتبار للمصلحة الوطنية العليا التي تقتضي المعالجة العلمية القائمة على تنسيب الحقائق والتشخيص الموضوعي الدقيق بغاية الوصول إلى الحلول والتسويات الضامنة للاستقرار والسلم الأهلي. يزداد الأمر خطورة وتعقيدا إذا كان للظاهرة أبعاد وتداعيات دولية عابرة للحدود والقوميات حيث يتداخل الثقافي بالجيوستراتيجي لتطال المخاطر والأزمات المقدس العالمي المشترك : حقوق الإنسان. ليست السلفية مجرد تيار ديني متأسس على النص المقدس بل هي ظاهرة انثروبولوجية تتجاوز المجال الحضاري الإسلامي لترتبط عضويا بكل الحضارات. إنها قراءة أو تأويل أو استنطاق لنص مقدس، دينيا كان أم ايديولوجيا، يتم استدعاؤه كلما دعت الحاجة كمصدر للشرعية في المعارك والصراعات الدائمة على السلطة. خاطئ إذن من يعتبرها ظاهرة خاصة بمجتمعاتنا الإسلامية لأنها موجودة في كل المجتمعات وان تراوحت بينها في حدتها ومضامينها وتمظهراتها الخارجية، فالأصولية المسيحية والتلمودية اليهودية والارثوذكسية الشيوعية والنزعات الليبرالية اليمينية المحافظة كلها سلفيات في مجتمعاتها وسياقاتها الحضارية تستند إلى نصوصها المؤسسة/المقدسة لتستمد منها شرعية الوجود والقول الاجتماعي. ليست السلفية إذن في حد ذاتها شرا مستطيرا أو لعنة إلهية على البشر بل هي أشبه بالمضاد الغريزي الذي تفرزه المجتمعات لكي تدافع عن كياناتها وخصوصياتها الحضارية أمام ما تعتبره ثقافة وافدة وأفكارا وقيما دخيلة. هكذا كانت السلفية الإصلاحية مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والتي كانت (والقول لمحمد عابد الجابري) تنادي بالرجوع إلى "ما كان عليه السلف الصالح" قصد اكتساب القوة التي تمكن من مقاومة الغزو الاستعماري. من هذا المنطلق لا يمكننا اعتبار السلفية في حد ذاتها مشكلة أو خطرا على المجتمع، الخطر الماحق يتمثل في تحولها إلى جماعة عنيفة تعادي مجتمعها فتخرج عن القانون العام وتفرض شريعتها على المجموعة الوطنية كلها. تجد السلفية العنيفة نقطة ارتكاز لها في حاجة الإنسان الأصيلة أو الفطرية للدين أي للمتعالي كمفارق للجماعة لكي تفارقها عبر استراتيجية التمايز مظهرا وسلوكا، في مرحلة أولى، والمغالبة تحريضا وعنفا، في مرحلة ثانية. ولئن كانت الديمقراطية قادرة على التعايش مع التمايز، على أساس المساواة في حقوق المواطنة، فإنها ترفض قطعيا استراتيجيات المغالبة وتعتبرها عملا عدائيا يستهدف النظام العام ويهدد كيان الدولة. لا مندوحة من كون مواجهة السلفية العنيفة يتم بواسطة الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية للدولة أي بالعنف الشرعي، فيما هو قانون وأمن ومحاكم وسجون، لانها جماعة متمردة على الشرعية وخارقة للسيادة. ولكن الوقاية من الورم أفضل من علاجه، ولن يتيسر ذلك إلا بالتصدي الفكري للظاهرة بنفس أدواتها النظرية ومن داخل حقلها المعرفي لفضح الإستراتيجية السياسية الثاوية وراء الأيديولوجيا السلفية وبيان تهافتها. تجدر الإشارة إلى أن الظاهرة السلفية، في نسختها الوهابية المتشددة، حاولت الانتشار في تونس خلال القرن التاسع عشر كامتداد للدعوة الوهابية (نسبة إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب 1703-1791) في أرض الحجاز وتمت مقاومتها والتصدي لها سلميا عن طريق علماء الزيتونة الذين دحضوا غلوها بالحجة والبرهان (انظر مثلا رسالة الشيخ عمر المحجوب سنة 1880). لا أجد تفسيرا لعودة الظاهرة بعد طردها سوى انقطاع "نخبة" شيوخ الزيتونة الناتج عن انحسار إشعاع الجامع المعمور وتراجع دوره الاجتماعي في الإرشاد ونشر الثقافة الدينية الوسطية المعتدلة. ظهر التأثير الخطير لهذا الانقطاع "النخبوي" خلال المحنة النوفمبرية التي شهدت غزو الفكر السلفي المتشدد لأرض الزيتونة ولم يكن الأمر كذلك إبان الحقبة البورقيبية لا لأفضلية هذه الأخيرة على وليدها بل لتواصل بقايا المشائخ الزيتونيين إلى موفى الثمانينات من القرن الماضي ورحيلهم عمريا مع المخلوع الأول. تميزت الفترة النوفمبرية إذن بالتقاء عاملين أساسيين غذيا الغزو السلفي وشكلا المحضن الملائم لإعادة إنتاج الظاهرة وتسويقها محليا: التصحر الديني كعامل أول والانسداد السياسي كعامل ثان. وباعتبار أن الانسداد السياسي يخلف حتما انفجارات في المجتمع المدني كان المد السلفي المتشدد في تونس إحدى تعبيراتها المدوية مستفيدا في تمدده من فراغ الشباب، كخزان استراتيجي، ومن عولمة الاتصال، كوسيلة فعالة في الاستقطاب، وأخيرا من غباء النخب الغارقة في نقاشاتها البيزنطية وعاهاتها الأيديولوجية المزمنة. ساهمت سنوات القمع البوليسي للإسلاميين المعتدلين في إنعاش الظاهرة وإضفاء المشروعية على نزوعها نحو العنف "كجهاد ضد السلطان الجائر" تماماً مثل ما فعلته الأصوليات المسيحية في مواجهة العلمانيات الغربية أوالسلفية الماركسية عندما رفعت شعار "ليس للبروليتاريا ما تخسره فلتكسر كل القيود". إنها استراتيجية المستضعف المظلوم في مواجهة المستكبر الغشوم(la stratégie du faible au fort) تحركها غريزة حب البقاء أو الدفاع عن الذات. في مرحلة ما بعد الثورة اختلطت الأمور وأضحت الحالة السلفية مجالا مفتوحا على التوظيف والاستثمار في كل البورصات السياسية. فمن الاستثمار الانتخابي الذي يتوسل مغازلة السلفيين إلى الاختراق المخابراتي العامل على صناعة اللحى وتأجيج الفتن مرورا بالمضاربات الحقوقية والإعلامية الهادفة إلى التمعش المالي والاستفادة من الريع الاعتباري الذي يدره الجدل حول الظاهرة، توزع دم السلفية بين الفصائل فضاعت الحقيقة وماعت المسؤوليات وارتفع عدد القرابين في موكب تراجيدي حزين زاد المشهد ضبابية وتعفنا. غير ان الإصغاء الهادئ ووقفة التأمل أثناء هبوب العاصفة الهوجاء يساعدان في استجلاء الحقائق وكشف الدسائس والمؤامرات. نذكر القارئ الكريم هنا أن من الدروس الأولى في علم الإجرام la criminologie أن المتهم الأول لدى ارتكاب أي جريمة هو المستفيد منها، ولما كانت القوى المعادية لثورة الشعب هي المستفيد الأول بل الأوحد من انتشار الفوضى والفتن واشتعال الحرائق وسقوط الضحايا فإننا نوجه إليها أصابع الاتهام حتى يثبت التحقيق خلافه. ودون الوقوع في فخ التشخيص الموجب للدليل القاطع، فإنني اكتفي بتعريف تلك القوى المعادية للثورة على أنها مثلث يتكون من أصحاب المال الفاسد وبعض القيادات الأمنية المنافقة وثلة من الساسة والإعلاميين الخاسرين الذين لم يحضوا بثقة الشعب لتورطهم سابقا مع نظام الفساد والاستبداد بالمباركة أو بالصمت، هذا فضلا عن الرموز التجمعية المتربعة على قمة المثلث تجييشا وتخطيطا لفائدة قوى الردة. هؤلاء جميعا من المتنفذين إلى حد اليوم، لأسباب معلومة، يتآمرون على ثورة الشعب وأمن البلاد ولن يهنأ لهم بال أو يستقر لهم حال حتى يعودوا إلى ما كانوا عليه من التسلط والإجرام. أما حيلتهم في ذلك فبسيطة وخبيثة تتمثل في إيقاد نيران الفتن (أمنيا) وصب الزيت عليها (إعلاميا) واستثمارها (سياسيا) بغاية الوصول إلى أمنية واحدة: إقناع الناس بفشل الحكومة تمهيدا لتعويضها بفئة أو بالأحرى فرية التكنوقراط الذين لا اعرف واحدا منهم! تمثل الأحداث الأخيرة لدوار هيشر نموذجا مكثفا لفعل الثورة المضادة في قضية مفصلية إلا وهي السلفية، ولست أبالغ إذا ما اعتبرت طريقة تفاعلنا معها والنتائج المترتبة عنه سترسم إلى حد كبير ملامح نظامنا السياسي ومستقبل ديمقراطيتنا الناشئة لان موازين القوى في الواقع هي المحدد في المحصلة وليس الدستور. استوقفني التصريح الأخير لزعيم جبهة الإصلاح السلفية صلاح البوعزيزي الذي اعتبر فيه "الأحداث ممنهجة ومخططا لها من قبل أطراف سياسية...". وإذا ما وضعنا هذا التصريح إلى جانب تصريحات ومواقف رموز آخرين من التيار السلفي (سيف الدين الرايس مثلا) ضمن ذات السياق فإننا سنصل منطقيا إلى نفس الخلاصة التي وصل إليها الباحث سامي براهم عندما توجه إلى احد شبابهم بقوله: "انتم مخترقون من أجهزة استخبارات عديدة..." لن يعفي هذا المعطى قيادات السلفية من عبء المسؤولية لان الذي اختار العمل الجماعي المنظم عليه أن يتحمل تبعات خياره مغنما ومغرما فلا يحق له أن يتعذر ببراءة الجماعة عندما يقدر بعض الحمقى أو المندسين على جرها إلى مستنقع العنف. ولكننا في المقابل نؤكد حقهم الطبيعي في ممارسة حرياتهم كاملة، كما يضبطه القانون وعلى قدم المساواة مع سائر المواطنين، ونرفض مبدأ المواجهة أو العقاب الجماعي المحرم في الإسلام والمخالف للديمقراطية ومواثيق حقوق الإنسان حيث "العقوبة شخصية" و"لا تزر وازرة وزر أخرى". ستقدم تونس الثورة نموذجا رائدا في المعالجة الحضارية لكل مشاكلها وأزماتها، ودروسا في الحريات واحترام حقوق الإنسان لا تتجاهلها عندما يتعلق الأمر ب"السلفيين الجهاديين" كما فعلت ولا تزال دول ديمقراطية عريقة! نقول للسلفيين ما قاله فولتير: "إنني اختلف معك في ما قلته لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقول ما تريد"، هذا التزام منا نلتزمه، فالتزموا أنتم بألا تغدر ثورتنا من بابكم.