لقد جاء التّقرير الأوّلي لدائرة المحاسبات (الصّباح 13 نوفمبر 2012) مؤكّدا ما لاحظه الكثير في خصوص الهيئة السّابقة للانتخابات من سخاء وتساهل في استعمال المال العامّ. فقد برزت هذه الهيئة خلال فترة حياتها كهيكل يعيش خارج السّياق العامّ لمؤسّسات الدّولة من حيث الامكانيات المتاحة والأموال المستعملة. كلّ ما نرجوه، إذا تأكّد ما جاء في التّقرير المذكور، أن يتعلّق الأمر بأخطاء تصرّف لا غير، ولا بجرائم تستدعي مؤاخذة جزائية.في انتظار صدور التّقرير النّهائي الّذي سيدين من يثبت خطؤه وينصف من يتعيّن إنصافه، يمكن إبداء ملاحظتين. تتعلّق الأولى بالمرسوم الّذي أنشأ الهيئة السّابقة للانتخابات. أمّا الثّانية فتتعلّق بعمل الهيئة في حدّ ذاتها.تمّ إنشاء الهيئة المستقلّة للانتخابات بمقتضى مرسوم 18 أفريل 2011، وهو مرسوم بلاها بقدر وافر من الحرّية وإطلاق اليد ويبدو أنّها لم تقدرعلى تحمّله. فقد أعفاها هذا النّصّ من احترام قواعد المحاسبة العمومية وكذلك قواعد الصّفقات العمومية (الفصل 3). فتمّ تغييب كلّ رقابة قبلية وتمّ استبعاد قواعد المنافسة الّتي تمثّل حجرالزّاوية في مادّة الصّفقات العمومية. وليس من المبالغة القول إنّ النّصّ المحدث للهيئة سمح لها بأن تفعل ما تريد بالمال العامّ الموضوع على ذمّتها، بحجّة أنّ الرّقابة البعدية الّتي تجريها دائرة المحاسبات (الفصل 3) تفي بالحاجة، وهوأمر لا يستقيم لأنّ هذه الرّقابة لا تكفي لاجتناب سوء التّصرّف والتّلاعب بالأموال العمومية. وربّما حاول البعض تبريرهذا الخروج الكامل عن المألوف في ميدان النّفقات العمومية بإضفاء المرونة اللازمة على عمل الهيئة وهوكلام لا يمكن الأخذ به إذ أنّ هاجس المرونة يمكن أن يؤدّي إلى التّخفيف من الضّوابط لكن دون إزالتها كلّيا. كما أنّ الحديث عن الاستقلالية يكون هنا في غير محلّه، فبئس الاستقلالية إذا كانت تعني النّفوذ اللّامحدود. ولا شكّ أنّ مرسوم 18 أفريل 2011 يمثّل من هذه النّاحية نقطة سوداء في المالية العمومية نرجو أن لا تتكرّرإطلاقا وبما أنّ الأمر يتعلّق بنصّ غير ديمقراطي، كان من الأجدر إخضاعه على الأقلّ لرقابة المحكمة الإدارية، وهو ما لم يتمّ التّنصيص عليه في التّنظيم المؤقّت للسّلط العمومية وقد عرضت مسألة رقابة شرعية المراسيم على هذه المحكمة، لكنّها اعتبرت، مع كلّ أسف، أنّها غير مؤهّلة لذلك وهو ما أدّى إلى دخول البلاد في حالة من اللاقانون لم تعرف لها مثيلا. وكان يجدر بالهيئة أن ترفض العمل على أساس مرسوم مشوب بكلّ ذلك التّسيّب القانوني لكنّها قبلته أوربّما استساغت ما توفّره مقتضياته من نفوذ مطلق. ومهما يكن من أمر، فالملاحظ أنّ الهيئة السّابقة للانتخابات لم تحاول في عملها التّخفيف من العبء الّذي ألقاه المرسوم على عاتقها عندما حرّرها من كلّ القيود. كان بإمكان الهيئة أن تضع لنفسها ضوابط تتعلّق بتوزيع الاعتمادات وبالانتداب وبالصّفقات وبمراقبة المصاريف وغيرها من المسائل، وذلك بإصدار تراتيب يتمّ إعلام العموم بها كما كان يتعيّن عليها اعتماد قدر كاف من الشّفافية في عملها، وذلك بتقديم تقارير أسبوعية يتمّ فيها التّعرّض إلى كلّ التّفاصيل المتعلّقة بالانتداب وبإبرام الصّفقات وبالسّفر إلى الخارج ...، مع ذكر الإجراءات والأشخاص والأثمان والمنح ومختلف الامتيازات فباتّباعها نهج التّعتيم، ووضعت الهيئة نفسها محلّ شبهة وقد عبّرعن ذلك بعض أعضاء هيئة تحقيق أهداف الثّورة منذ البداية، لكن لا من مجيب. ولا يليق في هذا الصّدد استبلاه الرّأي العامّ بالقول إنّه تمّ نشرالتّقرير المالي والقوائم المالية وهو أمر كاف. فعلاوة على أنّ هذا النّشر تمّ بعد انتهاء عمل الهيئة، تبقى المعطيات المنشورة عامّة ومبهمة ولا تعني شيئا أو يكاد بالنّسبة إلى عامّة النّاس. وتجدرالإشارة إلى أنّه من ضمن أعضاء الهيئة نجد قاضيا بدائرة المحاسبات وهذا الأمروإن كان لا يتماشى مع إخضاع حسابات الهيئة إلى المراقبة البعدية لدائرة المحاسبات، إلاّ أنّه، ربّ ضارّة نافعة، كان بالإمكان الاستفادة كما ينبغي من خبرة هذا العضو لمعرفة نهج التّصرّف السّليم؛ وأغلب الظّنّ أنّه لم يقع الاستماع إليه بالقدرالكافي، وهو ما يمثّل، إن ثبت، تقصيرا من طرف الهيئة. واللافت للانتباه أنّه، حتّى بعد النّهاية القانونية للهيئة وبعد إعلانها عن انتهاء مهامّها، أصرّت الهيئة على مواصلة البروز والإنفاق، وهو ما تأباه الأخلاق قبل القانون. وفي انتظارما ستقوله دائرة المحاسبات وربّما دائرة الزّجر المالي أو محاكم أخرى، يجدر بالجميع أن يتمّ تناول الأمور بهدوء وتحضّر مع ما يقتضي ذلك من اعتراف بالخطإ إن وُجد ومن اعتذار إن لزم ومن كفّ عن شكر الذّات دون موجب وخاصّة من اجتناب للتّشنّج لأنّ التّشنّج فاضح.