بقلم : سفيان الشورابي-اسماعيل دبارة- محمد ياسين الجلاصي -مجدي الورفلي - حسان العيادي - بفرار زين العابدين بن علي، إنهار الجدار العازل الذي كان عائقا أمام تواجد إعلام حر ونزيه في تونس. وبسقوط النظام السابق، تخلّص الإعلاميون من حواجز كانت تعيقهم من القيام بوظيفتهم على أحسن وجه. "سقط النظام السابق..؟ " لا شكّ أن في ذلك مبالغة كبرى. هكذا ظنّ الجميع في الأسابيع الأولى التي تلت هروب بن علي إلى المملكة العربية السعودية. فلئن اشرأبّت الأعناق متعطشة إلى تحقيق تغييرجذري في المنظومة الإعلامية عزّزها تشكيل هيئة لإصلاح الإعلام برئاسة الصحفي المخضرم كمال العبيدي، فإن تتالي الأيام كشف أن النظام لم يسقط ، وإنما تبدّلت قشرته الخارجية. الجميع نعِم بالحرية التي ضحّى من أجلها آلاف من التونسيين، لم يكن من ضمنهم سوى عدد قليل جدا من الإعلاميين الأحرار؛ الذّين بذلوا جهدا قبل الثورة وأثناءها لكسر الطوق الحديدي الذي فرضه بن علي، بزرعه لإعلام محلي منحاز لديكتاتوريته الغاشمة، إضافة إلى إعلام، لم يكن يتوقّع يوما فقدان الغرب لحليفه الدائم القويّ. معارضون من مختلف التوجهات السياسية خاضوا معارك على كل الأصعدة ضد نمط من الحكم هوغاية في التغطرس؛ لتكلّل جهودهم بثورة 14 جانفي الخالدة، التي سالت من أجلها دماء المئات من التونسيين. "هي ثورة..؟" تلك أيضا مبالغة على ما يبدو، وإلاّ فأين المؤسسات الإعلامية مما يعرف بالفعل الثوري ؟ فها هي دار لقمان ما زالت على حالها ؟ لا شك أن هناك مستحدثات طرأت على القنوات الإعلامية، لم يكن للتونسيين عهد بها. فهذه منابرحوارية تستضيف من كان محرّما ذكرأسمائهم همساً أو تلميحًا. وتلك أنشطة وتحركات وفعاليات وملتقيات وندوات وأحداث، يواكبها الصحفي ويتحدث عنها بكل حرّية و طلاقة وفق أخلاقيات المهنة طبعا. كلّ تلك التغيّرات المعاينة إنما هي شكليات في الحقيقة. تحاول إخفاء وضع الإعلام المريض الذي من المفترض أن ينخرط آليا في سياق ما أُطلق عليه ثورة على النظام السابق. فلو نأينا بأنفسنا عن هذه الشكليات، لاكتشفنا أن التغييرات التي يعرفها المشهد الإعلامي لم تمسّ بعدُ من الهيكلية الجوهرية لمؤسساته، التي نخرها النظام ليجعل من الإعلام ذراعه الطولى للتحكّم في المجتمع، وبثّ الرعب في صفوف كلّ من يخالفه. مؤسسات الإعلام العمومية مثلا، ما زالت تُصارع إلى الآن كي تحمي ما تبقى لها من استقلالية في خطّها التحريري. الحكومتان المتتاليتان بعد الثورة لم تعيا جيّدا على ما يبدو، أنّ القنوات الإذاعية والتلفزيونية الوطنية والجهوية، إضافة إلى بعض الصحف ليسوا سوى أجهزة عمومية مثل باقي مؤسسات الدولة الأخرى تخدم الصالح العام، وليست جهازا لتلميع واجهة حزب ما أونوع خاص من السياسة. فالمتابع لهذه المؤسسات الاعلامية يقف حتما على انحيازها لهذا الطرف أو ذاك، ناهيك عن الاسماء التي كانت بارعة في تزويق الديكتاتورية والتي تواصل نضالها المزعوم اليوم بخوضها الوقح في مفاهيم الحرية والنزاهة والحرفية. أكثرمن ذلك، فالإعلام العمومي الذي يفترض أن يكون الأكثر جرأة في طرح المواضيع لأنه صوت التونسيين كافة بهواجسهم ومشاغلهم وآمالهم، نراه يعرض اليوم عن طرق باب المؤسسة العسكرية؛ ويعتبر ذلك من الخطوط الحمر التي لا يجب الاقتراب منها، في انتظار خطوط حمرآخرى قد يرسمها المستقبل القريب؟ بل إننا قد نمضي إلى أبعد من ذلك لنسأل: ما الفائدة من إعلام عمومي أو رسمي في عصر التحرر السياسي والاقتصادي؟ والحال أننا في عهد جديد، يطمح لبناء ديمقراطية حقيقية لا زور فيها. ولئن كان الإعلام سلطة رابعة كما يقولون، فما داعي إلى خضوع بعض مؤسساته إلى إشراف السلطة الأولى، التي لن تلتزم الاستقلالية مهما زعمت؟ لا أحد يطرح مثل هذه الأسئلة المحرّمة الآن. بل لن نلمس جهودا حقيقية في إصلاح هذه المؤسسات إلا عند الإجابة عن مثل تلك الأسئلة. الإعلام الخاص من جهته، يمضي في إصلاح بيته بخطى متثاقلة جدّا؛ إذ كلّ ما طرأ عليها حتى اللحظة، لا يتعدى تغييرا في نبرة خطابه فيما يخص جزءا بسيطا من مادته الإعلامية، بل إن نوعا من هذا الإعلام الخاص، قد كرّس نفسه لتبادل الشتم مع الآخر؛ في حين ذهب نوع ثالث يبحث عن وليّ نعمة جديد. وحتى لا نواري الحقيقة، فإن من يتورّط مع الساسة ورجال الأعمال ولوبيات الضغط هم صحفيون "زملاء لنا". ربما نجدهم اليوم بغرابة، في الصفوف الأمامية للمعارك النضالية. لكنّ ذلك ، ونقوله بصراحة، لن ينسينا خوفهم واستكانتهم زمن الاستبداد، وبراعتهم في تقمص دور الضحية ولعب مسرحية "المرجفون في المدينة". ولو عزلنا محاولة البعض التعويض عما فاتهم من خوف وصمت مخزٍ خلال العهد السابق، باعتلاء عرش النضال والنقد الشديد الآن، فإننا لا نخفي ارتياح التونسيين لما باتوا يستمعون ويشاهدون ويقرأون عن أحداث وطنية وخارجية من زوايا متنوعة، وهذا مناخ صحيّ. الكل مسرور بذلك، لكن هل يوجد من انتبه إلى ضرورة تحليل وتمحيص ما يُقدّم إليه من أخباروأنباء، ناهيك عن شروط المراقبة والجودة والمهنية التي ترتبط بوسائل إعلام قديمة سحب المواطن منها ثقته، أو وسائل إعلام مستحدثة تحوم الشبهات حول مصادر تمويلها وولاءاتها؟ قدرة التونسي على تمييز الغثّ من السمين، والإشاعة من الحقيقة، والخبرعن الرأي، مازالت قدرة محدودة للأسف الشديد. فلا ثقافة له للتعاطي مع وسائل الإعلام التي تربّت لعقود في أحضان ديكتاتورية استطاعت أن تمحو الفروقات بين الكذب والحقيقة لتُغيب ثقافة ما وراء الخبر. أمّا النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين فهي تتعرض لهجمة شرسة من عدة أطراف، لكن هذا لا يمنع من القول أن مكتبها التنفيذي قد اغتربنفسه، جاحدا لدورالقواعد النقابية حين شدّت من أزره أثناء الفترات الحالكة. فها هو يستحوذ على تسييرهياكل النقابة دون استشارة منظوريه عندما يقتضي الأمر. و ها هو يغضّ الطرف عمّن كان يطعنه و يعرقل نضالاته في السابق. يجدراليوم بوسائل الإعلام هذه، أن تعزز أكثر ثقافة الحرفية والتحضر في التعاطي مع المادة الإعلامية؛ فذلك دورها الأصلي، الى جانب الإخبار وكشف الحقائق، ليعود الإعلام الى مساره النبيل والحضاري، وتتجاوز تصفية الحسابات الضيقة التي تلحظها من حين إلى آخر، لتكون مساهمته فعالة في الخروج بتونس من أدران ووحل الديكتاتورية والتخلف إلى رحاب التقدم والرفاهية والديمقراطية. والإعلام كما نعلم، لديه القدرة على قولبه الوعي الجماعي وعلى طرح صورمضخّمة أو مقزّمة عن الأفراد والمجموعات؛ وهو ما يجعل منه طاقة عالية ومحورية في السيطرة على مجتمع من المجتمعات. لنلقي هنا نظرة سريعة عن الجهات التي تسعى لاكتساب تلك القوة العجيبة للإعلام؛ إنهم بالتأكيد، رجال الأعمال والساسة واللوبيات الظاهرة والخفية. نظريا، تلك هي الجهات الرئيسة التي تتوق إلى الاستحواذ على الإعلام الخاص، أو حتى العام. وهو ما يحدث مع المؤسسات القديمة أو تلك التي تم استحداثها بعد تحرير قوانين الإعلام. وربما نحن في حاجة إلى مقال آخر لنخوض في باب"قوانين الإعلام؛ فالبحث في القانون سيجنّبنا الفوضى الحالية وغياب التشريعات وجعل القطاع الاعلامي أو الصحفي مرتعًا لكل من هب ودبّ. بل القانون وحده سيكون مقدمة لخروج الإعلام من ربقة الدكتاتورية التي تبقى دائما مرشحة إلى العودة، بدليل الملف الأسود للإعلام الذي أصبح يطوى تدريجيا. فلا حديث عن محاسبة أو كشف تورّط؛ بل لم يطلع التونسيون إلى اليوم عمّا كان يحصل في الغرف المغلقة التي كانت توجّه صحفيي العهد السابق، ومن كان يتحكم مباشرة في هذه المنظومة الضخمة؟ ومن كان يسيّر دواليبها؟ حكومات تتالت منذ 14 جانفي ولم يتجرأ أحدها على فتح تلك الملفات؛ ربما لأن أغلبهم مورّط فيها بصفة أو بأخرى. لا نبرّئ الصحافيين من التقاعس عن تطهير قطاعهم من الأورام التي سكنت جسده، لكننا نجزم أن الورم يبقى جزءًا دخيلا على الجسد مهما تمدد واستفحل. اللجنة الأولى لتقصي الحقائق، ورغم محدودية ما قامت به، إلا أنها ذكرت بالأسماء والأرقام جرائم تقشعرلها الأبدان لبعض الصحافيين المرتزقة، لكن لا شيء تم تمريره للقضاء للبت فيه مع الأسف. و أمام هذه المماطلة، تسلل "صحفيّون" ظلوا طيلة السنوات الماضية يتقدمون الصفوف الأمامية في لعب المهام القذرة في الإعلام التونسي ليقدموا لنا اليوم دروسا في المهنية والنضال والثورية للعامة والخاصة، بكل صفاقة ووقاحة. لنغمض أعيننا لوهلة الآن، ونُعد عقارب الساعة إلى سنوات خلت، ستتراءى أمامنا مباشرة، نفس الأسماء التي تصدرت المشهد الإعلامي من معدّي برامج ومنشطين وكتاب صحافيين (لا يتجاوز منتوجهم الملاعب الرياضية وسهرات فرحة شباب تونس، وفي أقصى الحالات خصومة بين نفرين حول ثلاثة أمتارغير صالحة للبناء) تسبّبوا من موقعهم في جعل الصحافة التونسية محل تندر وسخرية داخلياً وخارجياً. أما الفئة القليلة من الإعلاميين الذين قارعوا غطرسة النظام السابق من أجل أداء مهامهم بكل مهنية وحرفية، عادة ما تغضب صنّاع القرار، فيبدو أن مصيرهم كان التهميش والتجميد. ولأنّ تشخيص واقع الإعلام المريض المعتلّ، لا يجادل فيه ذوعقل وبصيرة، فإن البحث في سبل النهوض به و عرض المقترحات الجذرية لإصلاحه (موضوع مقالنا المقبل) خاصة في ظروف البلاد التي نعلمها جميعا، قد بات أمرا لا يحتمل التأجيل.