إن ما يحدث اليوم في تونس يمكن أن نشبّهه بحال طائرة تعبر منطقة اضطرابات جوية عالية وخطرة والكلّ داخلها يبحث عن ذلك القائد المحنّك على أمل أن يمكّن الركّاب من الخروج من منطقة الخطر بسلام. الكل يبحث عن ذلك القائد الرصين الذين يملك من الكاريزما ومن رجاحة العقل ما يمكّنه بحركة مهمة وبفعل حاسم أن يمسح بكمه كل الضغائن وأن يجمع من حوله الناس من أجل هدف سام ألا وهو مصلحة البلاد. إننا اليوم للأسف نعبر منطقة اضطرابات جوية عالية الخطورة ونبحث عن قائد للطائرة فإذا بالصوت يضيع وسط الصدى. توقعنا بعد الأحداث الدامية التي شهدتها ساحة محمد علي يوم الرابع من ديسمبر الجاري أن يسيطر خطاب آخر مختلف عما صدر عن الأطراف المتصدّرة للساحة الوطنية كل يلوّح بشرعيّته مزبدا ومرعدا ومتوعدا. انتظرنا خطابا من نوع آخر يعمل على تهدئة الخواطر دون أن يعني ذلك بالضرورة التنازل عن الحق في محاسبة من تسبّب في إسالة دماء التونسيين. فما حدث بساحة محمد علي بالعاصمة وأمام مقر الإتحاد العام التونسي للشغل حيث تحول تجمّع تونسي سلمي احياء لذكرى اغتيال فرحات حشاد إلى ساحة للحرب لا يمكن أن يمر دون محاسبة ودون ردع مناسب. لكن هل هناك فعلا من يرغب في تهدئة الأمور وهل يمكن أن نطمئن في ظل خطابات التصعيد إلى أن مشاهد على غرار ما حدث بساحة محمد علي لن تتكرر. هل يمكن أن نطمئن لعدم تكرار تلك المشاهد التي هي بالأحرى أقرب إلى العصور الوسيطة منه إلى القرن الحادي والعشرين في ظل غياب صوت يوحّد الناس من حوله ولا يصدر عنه ما من شأنه أن يخلق الفتنة أو أن يحدث التفرقة أو يتسبب في تأليب التونسيين ضد بعضهم البعض.. هل يمكن أن نطمئن إلى عدم تكرار ذلك المشهد الذي انفلتت فيه الغرائز من عقالها لتكتب صفحة حريّ بنا أن نضيفها إلى النصوص التراجيديّة الكلاسيكية فهي تضاهيها أو لعلها تتجاوزها في درجة "الإبداع" في العنف وفي درجة اتقان فنون التعذيب. ليس من الهيّن أن ننسى تلك المشاهد الخارجة للتوّ من العالم البدائي.. صفحة رأينا فيها النّاس في حالة هيجان ترفس بالأقدام وتنهال على الرؤوس بالهراوات فتشجها. رأينا الناس وكأن رائحة الدّم تزيدها نشوة وتأجج رغبتها في الإنتقام والهجوم مثل سمك القرش الذي تجلبه رائحة الدم. نخشى اليوم أن يستقر العنف بأرضنا وأن يصبح شيئا عاديا. فكل طرف في هذا البلد يحاول بكل قوة أن يحمل غيره المسؤولية نازعا عنه كل مسؤولية حتى لتكاد تتوه الحقيقة التي تتقاذفها الأيدي. ولعل الأخطر من ذلك أن الكل تقريبا يتحدث والكل يصرّح والكلّ يبرّر والكل ّيتحجج ويزبد ويرعد ويهدّد بزلزلة الأرض تحت أقدامنا. المتزعمون كثر والمتصدرون لمصيرنا كثر. هذا يلوحّ بشرعية انتخابيّة وذاك يلوّح بشرعية نضالية وذلك يلوّح بشرعية تمثيلية للتونسيين وغيرهم وغيرهم والبلاد تتقاذفها الأمواج والبلاد تتهددها الأهوال وشبح الفتن وشبح الحرب الأهلية غير بعيد فهل من قائد في الطائرة؟