دخول وحدة متنقلة للإنعاش الطبي حيز العمل بالمزونة    بنزرت: استكمال أشغال تهيئة وتجديد مركز طب النساء والتوليد وطب الاطفال والرضع ببنزرت نهاية جانفي المقبل    وزير الدّفاع يؤدي زيارة ميدانية إلى القاعدة البحرية بمنزل بورقيبة    الشركة الوطنيّة للسكك الحديديّة التّونسيّة:عدم تسجيل أية أضرار على إثر جنوح قطار المسافرين تونس - غار الدماء    الليلة: الحرارة تتراوح بين 6 و23 درجة    شكونوا المالي تراوري حكم مباراة تونس و نيجيريا في كان 2025 ؟    هذه الدولة العربية تسجّل أعلى أسعار السيارات الجديدة    محرز الغنوشي: الغيث النافع قادم والوضعية قد تتطور الى انذارية بهذه المناطق    ابدأ رجب بالدعاء...اليك ما تقول    منع بيع مشروبات الطاقة لمن هم دون 18 عاما..ما القصة..؟    ماذا في اجتماع وزير التجارة برؤساء غرف التجارة والصناعة؟    زغوان: مجمع الصيانة والتصرف بالمنطقة الصناعية جبل الوسط بئر مشارقة يعلن عن إحداث حقل لانتاج الطاقة الفوطوضوئية    شركة الخطوط الجوية التونسية تكشف عن عرضها الترويجي 'سحر نهاية العام'    خبير يوّضح: العفو الجبائي على العقارات المبنية مهم للمواطن وللبلديات..هاو علاش    يتميّز بسرعة الانتشار والعدوى/ رياض دغفوس يحذر من المتحور "k" ويدعو..    زيت الزيتون ب10 دنانير:فلاحو تونس غاضبون    تعرّف على عدد ساعات صيام رمضان 2026    عاجل: تهنئة المسيحيين بالكريسماس حلال ام حرام؟...الافتاء المصرية تحسُم    وليد الركراكي: التتويج باللقب القاري سيكون الأصعب في تاريخ المسابقة    وفاة ممرضة أثناء مباشرة عملها بمستشفى الرديف...والأهالي ينفذون مسيرة غضب    موسكو تدعو مواطنيها إلى الامتناع عن السفر إلى ألمانيا لهذه الأسباب    فضاء لبيع التمور من المنتج إلى المستهلك من 22 إلى 28 ديسمبر بهذه الجهة..#خبر_عاجل    11 مليون عمرة في شهر واحد... أرقام قياسية من الحرمين    أبطال إفريقيا: الكاف يسلط عقوبة الويكلو على أحد الأندية المغربية    ما ترميش قشور الموز: حيلة بسيطة تفوح دارك وتنفع نباتاتك    بداية من اليوم..دخول فترة الليالي البيض..    أنشطة متنوعة خلال الدورة الأولى من تظاهرة "مهرجان الحكاية" بالمركب الثقافي بسيدي علي بن عون    التمديد في المعرض الفني المقام بالمعلم التاريخي "دار الباي" بسوسة الى غاية منتصف جانفي 2026    افتتاح الدورة 57 للمهرجان الدولي للصحراء بدوز    اسكندر القصري ينسحب من تدريب مستقبل قابس    موزّعو قوارير الغاز المنزلي بالجملة يعلّقون نشاطهم يومي 12 و13 جانفي 2026    وداعًا لأسطورة الكوميديا الأمريكية بات فين    عاجل: اليوم القرار النهائي بخصوص اثارة الافريقي ضدّ الترجي...السبب البوغانمي    مع Moulin d'Or : قصّ ولصّق وشارك...1000 كادو يستناك!    رياضة : فخر الدين قلبي مدربا جديدا لجندوبة الرياضية    عاجل: هذا ما تقرر في قضية المجمع الكيميائي التونسي..    السجن لطالب بتهمة ترويج المخدرات بالوسط الجامعي..#خبر_عاجل    كأس أمم إفريقيا: برنامج مقابلات يوم غد    عاجل: عاصفة مطرية وثلوج تتجه نحو برشا دُول عربية    هذه أقوى عملة سنة 2025    تحذير خطير للتوانسة : ''القفالة'' بلا ورقة المراقبة يتسببلك في شلل و نسيان    سهرة رأس العام 2026.. تفاصيل حفل إليسا وتامر حسني في هذه الدولة    عاجل/ كأس أمم أفريقيا: الاعلان عن اجراء جديد يهم جميع المباريات..    ينشط بين رواد والسيجومي: محاصرة بارون ترويج المخدرات    صحفي قناة الحوار التونسي يوضح للمغاربة حقيقة تصريحاته السابقة    نانسي عجرم ووائل كفوري ونجوى كرم يحضروا سهرية رأس السنة    عاجل/ تركيا ترسل الصندوق الأسود لطائرة الحداد إلى دولة محايدة..    بداية من من غدوة في اللّيل.. تقلبات جوية وبرد شديد في تونس    النوبة القلبية في الصباح: علامات تحذيرية لازم ما تتجاهلهاش    رئيس الجمهوريّة يؤكد على ضرورة المرور إلى السرعة القصوى في كافّة المجالات    ويتكوف يكشف موعد المرحلة الثانية من اتفاق غزة    ترامب مهاجما معارضيه في التهنئة: عيد ميلاد سعيد للجميع بما في ذلك حثالة اليسار    كوريا الشمالية تندد بدخول غواصة نووية أمريكية إلى كوريا الجنوبية    فوز المرشح المدعوم من ترامب بالانتخابات الرئاسية في هندوراس    اليوم العالمي للغة العربية ... الاحتفاء بلغة الضاد ضرورة وطنية وقومية لحماية الهوية الثقافية    تزامنا مع العطلة: سلسلة الأنشطة الثقافية والترفيهية الموجهة لمختلف الفئات العمرية    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعلان دمشق.... آراء ومواقف عربية / د.منصف المرزوقي

ترك إعلان دمشق أثراً إيجابياً عند انطلاقته في الأوساط العربية بحيث يمكن رصد ذلك من خلال ردود الفعل التي صدرت في المشرق والمغرب، والاتصالات التي أجراها عدد هام من المثقفين العرب مع المعروفين من إعلان دمشق. وقد تجسد هذا الموقف بشكل واضح في إشارة تقرير التنمية العربية الرابع الذي أعطى للإعلان دمشق حيزاً واضحاً.
ويمكن القول أن النقاش العربي حول إعلان دمشق قد بدأ يتضارب منذ إعلان دمشق بيروتبيروت دمشق، حيث أعرب أكثر من عشرة كتاب عرب عن احترامهم للإعلان دمشق ولكن نقدهم الصارم له.
ومنذ ذلك الحين يمكن القول بشكل عام أن المثقفين العرب الذين يحملون رؤية يسارية أو عروبية ديمقراطية قد زاد نقدهم أكثر فأكثر للتجربة السورية ومخاوفهم من تكرارها بشكل مسخ للتجربة العراقية على رأي أحدهم"سفياني" من هنا، من أجل فهم أفضل لهذه الظاهرة توجهنا إلى الكاتب اللبناني فيصل جلول. والتونسي المنصف المرزوقي......
شكرا لمجلة مقاربات على تشريفي بالمشاركة بهذا النقاش السوري السوري حول تقييم مسيرة إعلان دمشق . لكنني سأتهرّب بكل شجاعة من الردّ على أغلبية الأسئلة لعدة أسباب ،منها أنني لست على ثقة بمعرفة دقيقة للأشياء حتى أسمح لنفسي بإصدار أحكام معيارية. ربما هناك خوف من توسيع دائرة خصومي وهي بغير حاجة لمزيد من التوسيع. أخيرا وليس آخرا لاعتقادي أنني، إذا أردت أن أكون عنصرا نافعا في هذا النقاش الهام ، فهذا يتطلب مني أن أعين إخوتي السوريين بتمكينهم من النظر لشؤونهم بعين خارجية، قد لا تكون ثاقبة، وقد لا تكون أحسن نظرة ، لكن من مزاياها أنها تعطي للوعي مستوى جديدا . فالقاعدة أننا ننظر للعالم دوما انطلاقا من ذواتنا وبرج المراقبة هذا ليس بالضرورة أحسن برج ،ومن ثمة هناك ضرورة للاستعانة بعين لآخر وإن كانت عين السخط حتى تتضح كل المساؤى التي تسهو عنها عين الرضا.
وحتى أكون صريحا أضيف أنني أفضل عدم الخوض في قضايا اجرائية ومشاكل حزبية وشخصية ، للتركيز على الأهم وهو التحديات الاستراتجية التي تواجه إعلان دمشق لأنها نفسها التي تواجهها اليوم كل حركات التغيير السلمي الديمقراطي في أرجاء الوطن الكبير ، وما الوضع السوري إلا حالة قد تكون ...اصعب الحالات.
كيف ينظر مناضل ديمقراطي عربي من تونس تحديدا للشأن السوري وخاصة لقضية إعلان دمشق؟
يمكنني القول – أو الاعتراف- أنني أتابع تجربة المعارضة السورية وخاصة تكوين جبهة إعلان دمشق بكثير من الإعجاب ...والإشفاق...والشكّ المتزايد في مستقبله.
لنبدأ بالإعجاب الذي يشاركني فيه كما أعتقد كل العرب الذين يتابعون الشأن السوري .
هذا الشأن جزء من الهمّ المشترك ، معركة في ساحة محددة لحرب واحدة أي حرب التحرر الوطني ضدّ احتلال داخلي بغية تحقيق الاستقلال الثاني أي بناء النظام الديمقراطي على أنقاض دولة الفساد والقمع والتزوير.
الإعجاب ناجم عن الوعي بأنه لا يوجد شعب عربي تعرّض لقمع وحشي كالذي عرفه الشعب السوري تحت ظلّ أشرس دكتاتورية عربية معاصرة، قد لا تفوقها عنفا ووحشية إلا الدكتاتورية البعثية الأخرى، التي انهارت للأسف بضربات الاحتلال الأجنبي المقيت... وكم كنا نودّ أن نراها تسقط بفعل القوى الداخلية حتى لا تنبت للأشباح أنياب جديدة وقد أنست فظاعات الاحتلال فظاعاتها، وأنها كانت السبب الرئيسي لمجيئه وللكوارث التي تسبب فيها.
وإنها لمأساة فكرية وشعورية بالنسبة لوحدوي وعروبي أبا عن جد – وباق على العهد - أن تكون أبشع الأنظمة الاستبدادية هي التي تغطت برداء القومية. لا يستطيع المرء إلا أن يقف مشدوها أمام الدمار الهائل للاستبداد "القومي" في العراق وليبيا وسوريا ليس فقط على مستوى الأجساد والأرواح والقيم ومؤسسات الدولة والمجتمع، لكن أساسا على مستوى الأحلام، وقد أصبحنا نخجل اليوم حتى من كلمات الوحدة والحرية والاشتراكية.
ورغم حماة، والتعذيب، ومخادع البراءة في المحتشدات سيئة الذكر مثل تدمر، وسنوات بل عقود من القهر المنظم، فإن المجتمع السوري – الذي كان قبل وباء الاستبداد أكثر المجتمعات العربية تقدما - استطاع أن يحتفظ بجمرات تحت رماد الحريق الذي اكتسح البلاد والعباد طيلة حكم الأسد الأب منتجا قوى حقوقية وسياسية حافظت على جذوة الحرية في أصعب وأقسى الظروف. لا يستطيع المشاهد التونسي الذي لم يجرّب قمعا وحشيا كالذي عرفته المعارضة السورية إلا أن ينحني بكل تقدير أمام آلام رهيبة وتضحيات جسام وشجاعة منقطعة النظير وإصرار يبعث على موجة من الاحترام والتهيّب.
ثمة سبب ثان للإعجاب ( مشوب بشيء من الغيرة) وهو نجاح الاخوة السوريين في تكوين ما عجز عنه التوانسة والمصريون والليبيون والجزائريون ...أي تكوين جبهة سياسية واسعة من أحزاب وشخصيات وعلى برنامج سياسي. صحيح أن إعلان دمشق لم يشهد انخراط كل القوى وشهد انسحاب البعض منها . لكنه إطار غير معروف في بقية أقطار الوطن العربي. إنه أمر عجزنا على تحقيقه في تونس حيث لم تتمخض محاولات لا عدّ لها ولا حصر إلا على تكوين جبهة حقوقية تكرر نفس المطالب العقيمة لتي طالبت بها منظمات حقوق الإنسان طوال 20 سنة دون نتيجة. كذلك الأمر في مصر حيث بقيت المعارضات مفككة ومجزأة ومن ثمة عاجزة عن تأطير شارع مؤهل للانفجار في كل لحظة بحكم ما وصلت إليه معاناة الناس.
الشعور الثاني هو الإشفاق .
فالصعوبات الكبرى وراءكم والصعوبات الأكبر أمامكم والمفر غير واضح . بصراحة لن أحب أن أكون مكان إخوتي السوريين. فالدكتاتورية سواء في تونس أو مصر نظام "سهل" الاقتلاع وتكلفة العملية لن تكون باهظة. مثلا النظام في تونس هرم موضوع على رأسه. يكفي أن تأتي هزة قوية لكي يسقط على جنبه . كل رأس مال هذا النظام جيوش جرارة من الشرطة الكارهة لوضعها والواعية بأنها في خدمة عصابتي إجرام هما عائلة بن علي وعائلة زوجته ليلي الطرابلسي ...وهي لا تنتظر إلا منقذا جديدا من داخلها أو من خارجها ويومها لن يرفع تونسي واحد نصف اصبع للدفاع عن نظام ليس له سند سياسي أو طائفي أو قبلي أو طبقي . حتى العراب الأجنبي الذي يستعمل هذا النظام في حربه ضد "الارهاب" لن يجد صعوبة في قبول نظام لا يضطر للتعامل معه على استحياء. نفس الشيء في مصر حيث لا أحد يعتقد أن الجيش سيقبل بتوريث الجملكية المصرية، أو أن الأمور ستتواصل وقد بلغ إفلاس النظام أنه أصبح عاجزا عن توفير الخبز والماء .
عامل آخر يسهل على التوانسة والمصريين والليبيين التعامل مع الدكتاتوريات وهي أن هذه الأخيرة بدون شك أنظمة عميلة فوتت كل ما بقي من الاستقلال الأول مما يجعل الوطنية والمواطنية شيئا واحدا.
صعوبة الوضع في سوريا ناجمة عن تضافر عاملين: الركيزة الطائفية للنظام وورقة "الوطنية" التي يلعبها نظام مستهدف من قبل "الفوضى العالمية الجديدة "التي تقودها إدارة بوش.
كيف سيلعب المجتمع السوري ضد هذه اللعبة؟ إنها مسألة شائكة لن يكون من السهل حسمها خاصة إذا لم يكن هناك وضوح كاف في الخطاب. لست من النوع الذي يسدي النصائح – ولو أنني من الذين يقبلونها بامتنان – لكنني أودّ أن أقول لاخوتي السوريين : يجب ألا يكون هناك أدنى لبس في خصوص رفض الطائفية وكل كلام منمق يخفي وراءه ما لا يفصح هو خيانة موصوفة لمشروع التحرر. كذلك لا بدّ أن يكون الموقف من ورقة " وطنية" النظام خاليا من كل لبس. فلا مجال للمفاضلة بين الاستبداد والاستعمار لأنهما وجهان لنفس قطعة النقد.
يجب ألا يكون هناك أي لبس بخصوص الرفض القاطع للتعامل مع الاستبداد الخارجي الممثل اليوم في الإدارة الأمريكية والانخراط في أي من ألاعيبها ويكفي ان تكون هناك تجربة عراقية واحدة.
وبنفس الصرامة يجب رفض مفهوم " وطنية " النظام ، لأنه لا وطنية اليوم إن لم تكن مواطنية، وخارطة الوطن في فهمنا الجديد تمرّ على جسد كل مواطن لأنه هو لا غير الممثل الشرعي والوحيد للوطن، ومن ثم فإن الخيانة الوطنية ليست التعامل مع الأجنبي بقدر ما هي التعامل مع المواطن-الوطن، بالوحشية والترويع والتسلط والاستنزاف وكل موبقات النظام الاستبدادي.
السؤال كيف يمكن التوفيق بين الأمرين، مثلا لو تعرضت سوريا لاعتداء خارجي واستنفر النظام حوله الشعب لاعبا مرة أخرى ورقة وطنيته المزعومة . بالطبع لا جدال أن على كل الديمقراطيين الوقوف في وجه الاعتداء لكن مع التأكيد أكثر من أي وقت مضى على أن ما يدافعون عنه عنه هو المواطن – الوطن ، أو وطن المواطنين وليس نظاما لن يكتسب أي شرعية بهذه المواجهة مع الخارج لأن خيانته للشعب وحقوقه المشروعة متأصلة فيه ويجب أن ترحل معه.
آتي هنا للنقطة الثالثة وهي الشكّ المتزايد بخصوص الاستراتجية التي يعتمدها إعلان دمشق.
هذه الستراتجية مبنية على السعي للتغيير الديمقراطي بالأسلوب السلمي التدريجي.
السؤال هل هذا مشروع قابل للتحقيق أم هو وهم إضافي سيضاف لقائمة الأوهام التي جرينا وراءها طوال حياتنا وأدت بنا إلى الطرق المسدودة وخيبات الأمل التي عرفنا ولا نزال نجرّب لوعتها.
نقرأ في وثيقة التأسيس أن " إقامة النظام الوطني الديمقراطي هو المدخل الأساس في مشروع التغيير والإصلاح السياسي ويجب أن يكون سلمياً ومتدرجاً ومبنياً على التوافق ، وقائماً على الحوار والاعتراف بالآخر"
لننطلق من كون الخيار السلمي لإقامة النظام الوطني الديمقراطي خيار مبدئي غير خاضع للنقاش ومن لا يقبله مطالب بالبحث له عن إطار آخر.
لكن أن يكون التغيير متدرجا ومبنيا على التوافق والحوار والاعتراف بالآخر (أي اساسا السلطة) فقضية تكتيكية يجب تفحصها بتمعن للتأكد من صلاحيتها. وليس من الواضح أن الاتفاق حولها سيكون سهلا.
لنبدأ بقضية الإصلاح المبني على التوافق والحوار والاعتراف المتبادل. هذا الإصلاح مثل الزواج لا يكون إلا بتفاعل طرفين. ماذا يبقى من المشروع إذا رفض الطرف الآخر "الزواج" والإنسان لا يمكن أن يتزوج من نفسه . الحل الوحيد ، إذا أردنا التمسك بنفس المنظومة الفكرية ، هو التحلي بمزيد من الصبر وتكثيف الضغط المؤدب ومواصلة الإلحاح ليقبل الطرف الآخر يوما ما بالإصلاح بعد أن يهديه الله إلى سواء السبيل ، أو أن تتغير الظروف. ها قد تحول المشروع من الإصلاح إلى مشروع الإقناع بالإصلاح.
وفي الأثناء ، كيف سنقنع الشعب المقهور، الجائع، الضحية المزمنة، بمصداقيتنا ونحن نتلقى اللطمات وأقصى ما نفعل الاحتجاج عليها بدل مواجهة لاطم نعرف جميعا أنه يخاف ولا يستحي؟
كيف سنصبح طرفا مقبولا لدى هذا الجبان العنيف الذي لا يستحي وبأي طريقة عقلانية سنقنع هذا المخيف الخائف بالدخول معنا في زواج إصلاحي سيؤول على الوطن بالبنين والبنات من المؤسسات الديمقراطية الحديثة وليدة مثاليتنا حسن استعداده.
نعم ماذا نفعل إذا أصرّ الطرف الآخر ليس فقط على رفض الإصلاح وإنما على المضي قدما في مشروعه الدكتاتوري؟
إنه الجدار الاسمنتي الحديدي الذي يرتطم به المشروع الإصلاحي والذي يحاول أصحاب الخيار إسقاطه حتى لا يفقدوا ثقتهم في مقومات وجودهم .
صعوبة هامة أخرى في هذا الخطاب العام لم يسلم منها النموذج السوري : التدرّج .
كيف سنتدرّج في بناء النظام الديمقراطي على افتراض أن هناك في الطرف المقابل من سيقبل بمحاورتنا بغير البوليس والقضاء.
ركائز النظام الديمقراطي أربعة : استقلال القضاء والحريات الفردية والحريات العامة والتداول السلمي على السلطة عبر انتخابات (لا يجب أن تعرف بأنها كذا وكذا وإلا صارت شبهة).
كيف سنتدرّج مثلا في تحقيق ركن استقلال القضاء ؟ هل سنقبل بأن يبقى فاسدا للعشر سنوات الأولى ؟ كيف سنتدرّج في بند الانتخابات : هل سنعطي السلطة – كما طلب ذلك البعض في تونس في الثمانيات- آليا الحق في ثمانين في المائة من مقاعد البرلمان ونأخذ الباقي ( حتى نطمئن سيادتها فلا تقلق على مصيرها ) وبعدها نتفاوض كل سنة حول المقاعد المتروكة للمعارضة ، والشعب يفتعل الذهاب للتصويت. ماذا بخصوص الحريات ؟ كيف يكون التدرج في حرية الصحافة ؟ هل سنمنع باتفاق ضمني الحديث في فساد العائلة المالكة والباقي مسموح به؟
إن لم يكن هذا هو التدرّج فما المقصود به؟
ليتأمل أصحاب هذا المفهوم الغريب من كل جوانبه وسوف يكتشفون أنه لا يستقيم، فالديمقراطية هيكل متكامل الأجزاء وهذه الأجزاء لا تكون إلا بوجودها معا وفي نفس الوقت وفي تناغم . مما يعني أن الديمقراطية موجودة أو غير موجودة و التدرج هو الاسم الآخر لديمقراطية مغشوشة و خدعة حرب استعملها الاستبداد لخداعنا ونستعملها اليوم نحن في محاولة يائسة لخداعه.
الكل يعلم أن أي إصلاحات حقيقية يجب أن تكون في مستوى اللب لا في مستوى القشور وإنها إذا كانت جوهرية فإنها ستفتح الباب أم سيل المطالب المعلقة منذ قرون والممنوعة بسدّ القمع، وأنّ فتح هذا الباب فلن يغلق إلى أن تذهب الأمور إلى نهايتها. كلنا ندرك هذا والاستبداد الخائف أول من يدركه، فلماذا نصرّ على استعمال كلمات لا معنى لها ولا مستقبل.
يخطئ من يتصور أنني أدعو هنا لخطاب راديكالي نتيجة تطرف فكري أوتشنج عصبي يجب أن يواجه بالحكمة والتعقل والوسطية وكل هذه الكلمات المنمقة التي تخفي وراءها ما تخفي.
فالسياسة كسياقة السيارة. يجب أن تتوجه إلى حيث تريد أن تتوجه عبر رؤيا واضحة للطريق وللعقبات . يجب أن تكون حريصا على روحك و أرواح الناس ، منتبها لقدراتك وخاصة لحالة الطريق . هذه الحالة لا تحدد الهدف طبعا (بناء نظام ديمقراطي بالوسائل السلمية) ، لكنها تحدد السرعة وظروف السياقة التي قد يكون منها التوقف على قارعةالطريق وانتظار مرور عاصفة أو إعياء مفاجئ يتطلب اغفاءة قصيرة . الخطأ أن تسرع في مدينة مكتظة ،أو أن تدخل السيارة الطريق في تردّد فتتسبب في حوادث قاتلة.
المطلوب إذن ليس الاستسلام لمزاج وطبع وأهواء وعواطف وإنما الردّ الذكي على سؤال واحد : كيف تكون السياقة السليمة الآن وهنا .
وهذا سؤال لن يفلت منه أحد ، لا في سوريا ولا في تونس أو مصر أو ليبيا الخ . نعم كيف تكون "السياقة" عندما تواجهك دكتاتورية خائفة و متعنتة ترفض كل حوار وكل إصلاح لأن الشروط الذاتية والموضوعية لمثل هذه الإصلاح غير متوفرة.
مشكلة أخرى لا ينتبه لها الخطاب الطوباوي عن الإصلاح والتدرج ، وهو أننا أولا في سباق مع الزمن الذي يدمّر كل يوم شيئا ما من وطن يخرب بصفة متسارعة ، وحلّ الانتهاء من كل هذا البؤس بالعنف.
من لا ينتبه اليوم أننا دخلنا على امتداد الوطن العربي في حالة حرب أهلية ساخنة أو باردة ، متفجرّة أو تتأهب للانفجار وأن المقاومة المسلحة تقدمت شوطا بعيدا هنا وتراجعت هناك ، لكن المستقبل لها إن لم نفعل شيئا .
كل هذا مجددا لأنه لا وجود عند الطرف المقابل لأي رغبة وخاصة لأي قدرة على إعلان السلام وطلب المفاوضة مع الممثلين الحقيقين للمجتمع حول الحل الوسطي الوحيد المثالي: نقل السلطة للشعب مقابل عدم المحاسبة ومصالحة على طريقة جنوب افريقيا عندما صفت احتلالها الداخلي .
الخيار إذن في ظل الهروب إلى الأمام الذي يمارسه النظام السياسي العربي الفاسد، وتنامي المقاومة المسلحة، وخاصة في ظل تزايد الفقر الذي يشمل اليوم 62 % من أمتنا وظهور شبح الجوع ، هو أن نكون أو لا نكون ، اقصد كحركة سياسية مدنية .
إذا أردنا ألا نكون فالطريق هو مواصلة تسجيل الحضور السياسي بخطاب سريالي يطالب من حيوانات كاسرة مرعوبة أن تتخلى عن معاقلها ويحاول طمأنتها بكلمات معسولة وكأنه يمكن ترويض الكواسر بسكاكر حلوى ملونة ...أو القطع النهائي مع الاستبداد ورفض كل شرعية له والتنظم كمقاومة مدنية سلمية والتوجه بالخطاب السياسي للناس لا للسلطة والقبول بأن تكون التضحيات التي سندفع ثمنها في كل الحالات هي في خدمة التوجهات الوحيدة التي يتطلبها الوضع المسدود والتي يمكن أن تعطينا شرعية ومصداقية لدى الرأي العام .
وحتى هذا ...قد يكون جاء متأخرا .
ومع هذا لا خيار لنا جميعا غير الثبات والمواصلة.
- *مفكر وناشط حقوقي تونسي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.