يواصل الفاضل الجزيري التفاعل مع الثورة التونسية ويواصل تقييمها ونقد مسارها فبعد "ثورة صاحب لحمار" التي كسر فيها حاجز الزمن وجعل الممثلين يتنقلون في ركحها بين أزمنة مختلفة تختزل بعض الفترات المتوترة من تاريخ تونس باللجوء إلى تقنيات مسرحية حديثة خلقت الدهشة عند من فهمها من المتفرجين وبعد التركيز فيها على الفوضى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي رافقت الثورة التونسية، ها هو اليوم يقرع الطبول إعلانا عن دخول تونس مرحلة حرجة من تاريخها تستوجب النضال بالكلمة والصورة والصوت وقد اختار هو ان يكون الصوت مستمدا من ذاكرتنا الموسيقية التونسية التي تراكمت عبر الأزمنة البعيدة والقريبة. ولعله يقصد بالمرحلة الحرجة محاولات الانحراف بالسلطة عن مهامها الأصلية.. هذا الانحراف الذي يوجب أمر مواجهتها بالقلم والصورة والصمود أمام انحيازها لاتجاه الرجعية خاصة ان هي أصرت على ان تكون بلا آذان صاغية. مرحلة يحاول فيها البعض طمس هوية تونس وتجاوز خصوصيتها وتدليس تاريخها ومحو فنونها وتجفيف جذورها الضاربة في عمق الزمن.. هذا الزمن الذي ترسخت عبر تعاقبه عاداتنا وتقاليدنا التونسية وناضل فيه شعراؤنا وأدباؤنا وحكوا عن عصورهم وما كان يميزها ويشكل خصوصيتها عن البلدان الأخرى عربية إسلامية أو أجنبية.. إنها تونس بطبّالها وزكرتها ودفوفها وأبطالها ومناضليها.. الدغباجي.. وبن غذاهم.. الدعاجي وعبد الحميد خريف.. عبد المجيد بن جدو وعلية والهادي قلة وإسماعيل الحطاب وغيرهم. حلق عاليا بالنص وغاص عميقا في التراث في هذا الحفل الذي رسم ملامحه وأعده وأخرجه الفنان المسرحي الفاضل الجزيري متلاعبا بالصورة والأضواء موزعا الحركة على الركح بدقة وبحنكة أفادت أنه كعادته في التحليق عاليا بنصه وفي الغوص عميقا في تراث تونس الموسيقي وأنه مازال يتفوق على نفسه في كل مرة يحلّل ويفكك فيها الحدث ليبسطه وهو في أعلى درجات الإبداع تاركا المجال واسعا لاستيعاب أي موقف يتخذه الحضور بما في ذلك النقد والأعراض أو المساهمة التي عادة ما يضمنها للمتلقي بخلقه لتلك المسافة التي اقترحها "براشت" بين المشهد الذي يعرضه الواقف على الركح سواء كان ممثلا (في صاحب لحمار) او مغنيا(في هذا الحفل الجديد) والذي يتحرك فيه المبدعون واقعا أو خيالا وبين المتفرج. اتسع صدر الطبل والدف والزكرة للكمنجة و"القيثار باس" ورقصة البالي فكان الضم والانفتاح والتعايش الذي افرز بهجة ورونقا اسعدا الحضور الذي ضمه المسرح البلدي بالعاصمة في سهرة الجمعة 7 ديسمبر 2012 التي التأمت بمناسبة الاحتفال بالدورة الخامسة والعشرين من جائزة الشاعر أبو القاسم الشابي. تراجع رعاية المؤسسات الاقتصادية للثقافة هذا الحضور النوعي المؤلف من كبار شعراء وأدباء وسياسيي تونس ورجال اقتصادها وإطارات البنك التونسي الراعي الرسمي للجائزة وموظفي الدولة ووزير الثقافة مهدي المبروك الذي سلم للشاعر آدم فتحي جائزته بعد ان لاحظ ان سنة 2012 شهدت تراجع رعاية المؤسسات الاقتصادية للعمل الثقافي وخاصة للمهرجانات وقال ان مهرجان قرطاج كان الأكثر تضررا من هذا التراجع في الرعاية والمساندة ووعد بتقديم الدعم المالي لجائزة أبي القاسم الشابي في الدورات اللاحقة حتى وان غادر الوزارة إذ لا يعقل أن لا تساهم الدولة في تمويل ورعاية جائزة بهذه الأهمية باعتبار الأسماء الكبيرة التي تشارك فيها سواء من الأدباء التونسيين أو العرب. في هذه السهرة تحدث المبدع عز الدين المدني عن الدعم اللامحدود الذي يوليه البنك التونسي للجائزة وللثقافة في تونس منذ سنة 1984 لهذه الجائزة التي شهدت ارتفاع عدد المشاركين فيها من كل البلدان العربية ومن استراليا وأمريكا وعرب إسرائيل وفاقت في دورتها 25 التي خصصت للشعر بأنواعه(عمودي وحر ونثري...) المائة كتاب و10 قصائد لعشرة شعراء احتلت فيها تونس المرتبة الأولى في عدد المشاركات وتليها المغرب ثم مصر ولبنان وسوريا ودول من الخليج العربي على غرار سلطنة عمان علما بأنه لأول مرة يقع تخصيص جائزتين الأولى للكتاب وقيمتها10 ألاف دينار والثانية للقصيد الواحد الذي قيل في ثورة 14 جانفي وقيمتها 2000 دينار. آدم فتحي الذي نال الجائزة الأولى صرح لجريدة "الصباح" بان قيمة الجائزة تضاعفت بالنسبة إليه بعد ان علم بأسماء أعضاء لجنة التحكيم الذي يجلّهم ويحترمهم ويعرف مدى ما يتمتعون به من كفاءة ومصداقية وحياد وأكد بان الجائزة لم تكن غاية في حد ذاتها وقال:".. ولكن مرحبا بها عندما تجيء لأنها في الحقيقة رجع صدى وإعلام بأنه يتم الاستماع إلى أصواتنا وتقدير تضحياتنا ومجهودنا الذي عادة ما يكون على حساب أفراد العائلة." الشاعر محمد عمار شعابنية الحاصل على جائزة القصيد الثوري والشاعر محمد الغزي أيضا كانا سعيدين وقد عبرا عن سعادتهما من خلال القصائد التي القياها مع آدم فتحي والشاعرة جميلة الماجري التي قالت:" كل الممالك زائلة إلا التي حكامها شعراء" وقرأت من ديوانها"ذاكرة الطير" قصيدة بعنوان"ذاكرة العشق "وهي رد على قصيد من بيت واحد كتبه الشاعر الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب على قبر زوجته وهو:" مهدي لي لديك مضطجعا.. عن قريب يكون ترحالي" وعلي الدوعاجي أيضا كان حاضرا وقد رفرفت روحه الخفيفة بين اعمدة المسرح عندما قرأ احد أبناء الفاضل الجزيري"109 دروس في فن البوس" ضمن إحدى لوحات الحفل وكذلك الشيخ إمام الذي غنى له احمد أمين بن سعد أغنية "بقرة حاحا"برؤية جديدة وتونسية خالصة اقترحها عليه المبدع الفاضل الجزيري.