هناك جانب هام من أحداث "الخميس الأسود" 26 جانفي 1978 لا أدري لماذا يتم تغييبه كليا أو جزئيا إذ تقدم أحداث ذلك اليوم غالبا على أنها حلقة من حلقات مسلسل صراع الاتحاد العام التونسي ضد السلطة من أجل استقلاليته وحرية قراره بينما تخفي هذه المواجهة جانبا آخر هاما لا يمكن إغفاله احتراما للحقيقة التاريخية إذ أن هذه المواجهة مثلت أيضا وجها من أوجه الصراع حول خلافة بورقيبة بين مختلف أجنحة الحكم في البلاد. فقد انطلقت «معركة الخلافة» منذ بداية السبعينات واحتدمت مع نهايتها وبرز فيها جناحان متصارعان هما جناح الوزير الأول الهادي نويرة الذي اصطف حوله من جملة من اصطف محمد الصياح مدير الحزب الحاكم وعبد الله فرحات وزير الدفاع وجناح الطاهر بلخوجة وزير الداخلية المدعوم من قبل «الماجدة» وسيلة بورقيبة زوجة الرئيس والذي اصطف وراءه عدد كبير من الوزراء من بينهم المنجي الكعلي والحبيب الشطي ومحمد الناصر وغيرهم وأيضا...الحبيب عاشور الأمين العام لاتحاد الشغل في ذلك الوقت. فقد كان منصب الوزير الأول في ذلك الوقت يسمح لصاحبه بمقتضى الدستور بأن يكون المرشح المالك لأبرز الحظوظ أو كلها لخلافة «الزعيم الهرم» الذي تعاظم منذ ذلك الوقت مرضه وخرفه وبدا للجميع أن نهايته قد اقتربت كثيرا مما جعل معركة «المواقع» تضطرم اضطراما كبيرا داخل دائرة الحكم. فكان كل طرف يسعى محموما لتدعيم مواقعه وإضعاف خصمه بشتى الوسائل ومن بينها محاولات التأثير عبر المناورة و»التخويف» على «أسد قرطاج» لدفعه للتخلي عن وزيره الأول وقد لعبت وسيلة بورقيبة ومحميّها الطاهر بلخوجة الماسك بمقاليد وزارة الداخلية دور رأس الحربة بالنسبة لهذا الشق أما الشق المقابل الذي لعب فيه محمد الصياح الدور المؤثر فقد ارتكز في صراعه على آلة الحزب الذي كان مديره وعلى الجيش الذي كان عبد الله فرحات وزيرا له. أي أن موازين القوى المتصارعة المتقابلة كانت «مترادعة» إلى حد ما. فهناك من جهة الاتحاد ووزارة الداخلية وساكنة قصر قرطاج وفي الجهة الأخرى نجد الحزب والجيش وساكن قصر الحكومة. وبعد استعراض للعضلات امتد تقريبا على كامل سنة 1977 وحتى قبلها قليلا حدثت المواجهة، التي انطلقت شرارتها بإقالة الطاهر بلخوجة من وزارة الداخلية في أواخر ديسمبر 1977. فهذه الإقالة، التي لم يتوقعها الشق الحكومي والنقابي وتحديدا الحبيب عاشور المتحالف مع بلخوجة والماجدة قلبت موازين القوى دفعة واحدة لفائدة «جماعة الصياح» فكان أن استقال عدد كبير من الوزراء من الحكومة تضامنا معه ولخلق فراغ حكومي وللضغط على بورقيبة أكثر. إلا أنها كانت «ضربة في الماء» زادت بورقيبة إصرارا على دعم شق وزيره الأول ومدير حزبه فمن المعروف عن بورقيبة أنه كان لا يحب من يضغط عليه ويحاول ليّ ذراعه. ثم تتالت الأحداث التصعيدية الصغيرة، من مقالات نارية في جريدة «الشعب» ومن اضرابات قطاعية متفرقة هنا وهناك إلى أن وصلنا إلى الإضراب العام يوم 26 جانفي 1978 الذي سقط فيه مئات الجرحى وحوالي ستين قتيلا، ستة وخمسون إن لم تخني الذاكرة وهو رقم أعتقد أنه ثابت ودقيق نظرا لأن الحكومة نشرت إثر الأحداث وهو ما لم يحدث إثر انتفاضة الخبز في 3 جانفي 1984 قائمة اسمية مفصلة للقتلى تضمنت الأعمار والعناوين والمناطق التي سقطوا فيها. * * * هذا هو وجه أعتقد أنه هام جدا من أحداث 26 جانفي 1978 وأرى أنه مهمل بعض الشيء أو مغيّب عمدا ولا بد أن يعرفه الجيل الذي لم يعشها والذي تقدم إليه غالبا صورة تحصرها في صراع بين النقابة والنظام السياسي أو بين النقابة والحزب الدستوري في إغفال تام لواجب الواقعية أي الحقيقة في ذكر الوقائع التاريخية الهامة. وقد تجدد هذا الصراع ذاته على خلافة بورقيبة في نسخة ثانية دموية بمناسبة أحداث الخبز في جانفي 1984، ولكن بعد أن تغيّر بعض «الممثلين» إذ كان رأسا الحربة في 1984، ادريس قيقة وزير الداخلية محمي وسيلة بورقيبة الجديد من ناحية ومحمد مزالي من ناحية أخرى، وأسوأ ما في هذه الحلقة إضافة إلى عدد القتلى والجرحى الذي لم يعرف بدقة إلى اليوم أنه فتح الباب لوصول بن علي إلى الحكم ول»سنوات الرصاص» والتيه والضياع. فعندما تبتلى الشعوب بطبقة سياسية تسبّق المصالح الأنانية الشخصية الضيقة على المصلحة العليا للوطن... تطل المحن برأسها ويفتح الباب على أسوإ الاحتمالات. فهل نعي دروس التاريخ حتى لا نكرر نفس الأخطاء على الدوام؟