الحرب ضد اللغة العربية قديمة جديدة من طرف العديد من المستشرقين والفرنكفونيين القدامى والجدد، الذين تستخدمهم الامبريالية الغربية على مرّ العصور لضرب الفكر الإسلامي أولا واللغة العربية بدرجة ثانية لأنها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. يقول المفكر التونسي الراحل محمود المسعدي «إن اللغة العربية هي الدم واللحم للمغامرة الوجودية التي يحياها الإنسان وإذا نحن أحببنا اللغة العربية نكون أحببنا الإنسان العربي» (تاريخ تونس الثقافي للأستاذ الشاذلي الساكر).. فاللغة العربية بهذا المنظور هي الحياة للأمة وهي التي تعطيها حق البقاء والاندياح على وجه الأرض دون أن ينالها الذبول أو التدمير، لأن اللغة هي المحرّك المحوري لذاتيتنا فكريا ووجدانيا وعلميا ودينيا واجتماعيا وسياسيا، فهي التي تَسِمُنا وتعطينا الخصوصية التي تميزنا. ولكن كثيرا ما سمعنا ونسمع من وسائل الإعلام، وما نقرأ لبعض الكتاب في المجلات الثقافية هنا وهناك، من الدعوات إلى تجديد اللغة العربية وتبسيطها لتساير العصر وكأن هذه اللغة عاجزة ومتخلفة في الإحاطة بأيّ علم من العلوم ، بينما الإنسان العربي هو المتخلف لأنه لم يستطع مواكبة العصر، بالجري وراء المعرفة، لأن اللغة وعاء والوعاء تستطيع أن تملأه بما شئت (وكل إناء بما فيه يرشح) أليست اللغة العربية هي لغة العلم يوم كان العربي شهما معتزا بذاته لا يستجدي الآخرين؟ ويشهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء، بأن اللغة العربية كانت بلا جدال لغة العلم، للجنس البشري، في الفترة من منتصف القرن الثامن، حتى نهاية القرن 11 الميلادي، حيث كتب عباقرة العرب والمسلمين تآليفهم العلمية باللغة العربية كالخوارزمي وابن سينا والكندي وغيرهم، هذه الريادة لم تأت من فراغ، بل من الإيمان بهذه اللغة وبما حققته من مكاسب معرفية أشعّت على الآخرين يومها.. فلغتنا العربية هي التي تحصّن ذاتنا من الذوبان في المستنقعات الآسنة وليست حجر عثرة في طريق التقدم العلمي والمعرفي، إنما البعض من الذين يسوّقون لغة المستعمر القديم، الذي لوّث أذهانهم بعديد المركبات المقيتة ولا يزال، سعيا لنشر ثقافته ولغته بشتى التعلات والضغوط من أجل ابتلاعنا وطمسنا، لكي لا نحس بأيّة مرجعية تاريخية أو قومية لنا، والمغلوب يقلّد الغالب، كما قال عبد الرحمان بن خلدون «إن غلبة اللغة بغلبة أهلها وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم». أما كان أحرى بهؤلاء الذائبين في ثقافة الآخر، أن يعودوا إلى رشدهم وأصولهم وثوابتهم، التي بدونها ليس لهم مكان في هذا الوجود، لأن الذي فقد لغته فقد كل شيء يميزه عن الآخر ويصبح ذيلا تابعا لهذه الجهة، أو تلك، لا حصانة لغوية تثبّت ذاته في هذا المحيط الإنساني المترامي الأطراف، ألم نر ونسمع اليوم، أن الدول الغربية المستوردة لليد العاملة العربية أصبحت تشترط على هؤلاء بأن يتعلموا لغة البلد المقصود، مع نظرة عامة على جغرافيته وتاريخه، ليسهل اندماجهم كما يقولون، لكن الواقع ليسهل ابتلاعهم وتخليهم عن أصولهم شيئا فشيئا، هكذا ينظر الغربيون إلى لغتهم باعتبارها عنصرا من العناصر التي لا يمكن التخلي عنها من ناحية، ونشرها من ناحية أخرى. وما نسمعه في وسائل الاعلام المسموعة والمرئية في تونس من بعض المذيعين والمذيعات الذين يتكلمون لغة ثالثة ركيكة ليست عربية ولا دارجة مهذبة بل هي خليط من هذا وذاك، والفرنسة هي الطاغية وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا!! بينما الإعلامي الفرنسي لا يستعمل الا لغته الأم لانه يحترمها ويحترم مستمعيه. فدفاعنا عن لغتنا واجب مقدس ليستمر وجودنا الفعلي، وإلا أدركنا الذبول والفناء. ومن هذا المنطلق، علينا أن نستلهم ولو جزءا يسيرا من اعتزاز اليابانيين بلغتهم، رغم ما فيها من صعوبات وتعدّد أشكال حروفها أو رموزها، لكن هذه اللغة الصعبة طوّعوها في دراسة العلوم والتكنولوجيا المتطورة ولم يقل أحد من مثقفيهم وعلمائهم في يوم من الأيام، أن هذه اللغة صعبة التعليم والتعلم، وعاجزة عن معانقة العلم والتكنولوجيا، فلنستبدلها باللغة الإنقليزية لغة العلم بلا منازع. لكن هذا لم يقع وما نراه في اليابان وفي الصين وفي البلدان المتاخمة لهما، الكل على نفس الدرب في الإبداع العلمي والتكنولوجي المذهلين. يقول «سير جورج سانسوم» أحد الخبراء بشؤون اليابان «إن اللغة اليابانية أعقد نظام كتابة في العالم»، ويضيف «لاشك أنها حقل دراسة شائق، لكن من الناحية العلمية فإنها اللغة الأسوأ على الإطلاق» غير أن اليابانيين فخورون جدا بلغتهم، التي استعارت الرموز الصينية في كتابتها والمعروفة باسم (كانجي) وعلى رغم من أن اللغتين بعيدتان كل البعد عن بعضهما بعضا، فقد اقتصرت هذه الاستعارة على الشكل فقط دون النطق، حيث أعطى اليابانيون كل شكل نطقا مقابلا لمكونات لغتهم، والفرد متوسط التعليم في اليابان متوقع منه أن يكون ملما بنحو 2000 كانجي والمثقفون قد تزيد حصيلتهم على 5000 كانجي، ويتطلب الأمر أن يتقن الفرد رسم أشكال هذه المقاطع المختلفة مع ربطها بالتأكيد بمقابلها الصوتي، الذي قد يشترك فيه أكثر من شكل (صورة) ما يدفع بالأمر إلى آفاق غير مسبوقة من التعقيد (عن مجلة دبي الثقافية).. لكن هذا البلد الرائع حافظ على لغته، رغما عن تعقيداتها كتابة ونطقا، ومع ذلك استطاعوا اعتلاء ناصية العلم والتكنولوجيا المتجددة كل يوم إن لم نقل كل ساعة، أليس هذا مذهلا حقا ويبعث على الحيرة والتعجب أحيانا؟ بينما اللغة العربية سهلة وجميلة وجمالها يعرفه من درسها دراسة مستفيضة وعرف ما تشتمل عليه من عديد الأبعاد التعبيرية عند استعمالها، وما تختزن من معان وعمق في أدائها اللغوي، فهي قادرة على الدخول إلى جميع العلوم والتكنولوجيات بشتى أنواعها، إذا صحّ العزم منا في الرفع من أدائها ودون هجرانها إلى لغات أخرى وتركها عجلة خامسة وسط المحيط العلمي العالمي الذي توغلت فيه حتى اللغة العبرية التي قبرت منذ قرون في أسفار التوراة، إلا أن الإسرائيليين توصلوا إلى إحيائها من جديد، اعتزازا منهم بأصولهم الحضارية، فهي عندهم اليوم لغة التدريس والعلم والتكنولوجيا والسياسة في إسرائيل، بينما اللغة العربية في بلادنا لا تزال تعاني الإقصاء من أهلها، فلا تعريب للمدرسة الابتدائية ولا الإعدادية ولا الثانوية، بل الاعتماد كل الاعتماد على اللغة الموازية في العلوم، بينما الواقع يفرض علينا أن نتجه إلى التعريب لأنه الركيزة الأساسية في صناعة النهضة ببلادنا من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن اللغة هي المظهر الأبرز لأيّ كيان بشري على الأرض، والذي يجب أن نؤكده هو أن المسألة اللغوية في بلادنا ليست قضية شخصية كما يتبادر لبعض الأذهان القاصرة، وأن كل عائلة لها وجهتها الخاصة في تنشئة أبنائها على تعلم اللغات الموازية للغتنا العربية، معتبرين ذلك هو الأصلح لهم والأقوم، وهذا ما نراه ونلمسه في المدارس الخاصة، التي بدت تنتشر هنا وهناك، بينما وطنيتنا تفرض علينا أن ننأى بأولادنا عن مثل هذه المدارس الخاصة، التي تجعل من اللغة العربية عبئا ثقيلا غير مرغوب فيه والاعتناء كل الاعتناء بغيرها من اللغات زيادة على ما يجده التلاميذ في عائلاتهم من تشجيع ومساندة، خاصة عندما يصبحون يرطنون بهذه اللغة أو تلك، على حساب لغته الأصلية، لأن التنشئة هي التي تجعل الأجيال متعلقين بلغتهم منذ سنين الدراسة الأولى من الروضة إلى المدرسة الابتدائية وما بعدهما، فكفانا هذا الجري والسباق بأولادنا إلى اللغات الأخرى، ودون رادع من ضمير وذات وهوية، وحتى الدراسات التي قام بها علماء اللسانيات في العالم، أثبتت بما لا مجال فيه للشك، أن الازدواجية في اللغة لا تؤدي المطلوب منها، ولا تخلق عباقرة جددا، كما يأمل المشجعون لهذا الاتجاه الخاطئ. وليس معنى هذا من باب العزوف عن اللغات الأخرى فنحن نشجع على المزيد من معرفة اللغات، والقدرة على التصرف في قواعدها باعتبار ذلك نافذة مفتوحة على الآخر، لا أن نكرسها في دراسة كل المواد الأساسية بمدارسنا، وتبقى اللغة العربية هامشية عوض أن تكون محورية، فهل من مذكر؟؟