- بعد الاستفاقة من نشوة الخلاص والانتصار والتحرر من الكبت والاضطهاد على إثر ما شهدته تونس وبعض الدول العربية من تحولات، اكتشفنا أن الحلم صعب المنال والطريق وعرة، شاقة وطويلة في غياب الرؤية المسبقة الواضحة للمشروع الثوري المشترك عندما جاءت الثورات يتيمة بلا مثقفين يسهرون على التخطيط والتأطير لتحقيق التغييرالمنشود لا على صعيد تغييرالأنظمة فحسب بل في كل الجوانب العلمية والأدبية والفنية التي تعيش انتكاسة منذ قرون أضحى فيها حاضرالشعوب ومستقبلها بأيدي غيرها بعد أن نفض العالم يديه من كل ما هو عربي، يعود الحديث، اليوم ، أكثر من أي وقت مضى حول دورالمثقف....فبأي صورة سيعود الابن الضال ؟ سعى نظام بورقيبة إلى بناء الدولة الحديثة ضمن وعي ثقافي مقولب في شكله الحداثي المتأثر بالغرب والمنبهر بالتنويرالذي بشّر به الاستعمار وسوق له مستفيدا من حالة الانهيارالتي أصابت أركان المجتمع التقليدي ومن حالة الجهل والأمية التي ألمت بالمجتمع التونسي في تلك الفترة. كانت القيادة السياسية في تونس في بداية الاستقلال بثقافتها الفرنكفونية هي المشرف والداعم الأساسي لكل فعل إبداعي وفكري مستغلة الزخم الشعبي المجتمع حولها لتنحت نمطها الثقافي الذي تريد... اهتمت الدولة في بداية الاستقلال بنشر التعليم بالعربية والفرنسية وانخرط جل المتعلمين في الفعل الثقافي والسياسي تلبية لنداء واجب بناء الدولة ومن ثمة نشأت هذه العلاقة الوطيدة بين المثقف والسياسي وهذا التداخل بين الثقافة والسياسة منذ التأسيس... انتدبت السلطة كل المتعلمين لنشرالثقافة والتعليم منفذة أهدافها في رفع الأمية المتفشية كانت الأولوية فيها للعدد ، فانتشرت المدارس في كل الربوع.... كما شجعت الأعمال الفنية ودعمتها بالمال موجهة الفعل الثقافي لما يخدم مصالحها ويلمع صورتها ولئن كان الإقراربالتجانس في التعامل مع المسألة الثقافية في العهدين الماضيين يعد إجحافا، فإنهما اشتركا في الهيمنة المباشرة على الثقافة وتوظيفها في إمادة مدة الحكم، فبورقيبة وبن علي، كلاهما، نصب نفسه حاميا لمدنية الدولة وحداثتها ووظف المثقفين لتشريع سبب بقائه المبني على تحصين الشعب من فوبيا الظلامية والرجعية ورعاية الإيقونا الحداثية فصارالرمز (الحداثة وما يسمى بالمكاسب.. مكاسب المرأة مثلا..) أهم من الحقيقة والواقع فساد على موضوع فقرنا وجهلنا وهواننا وتمركزت مواضيع جل الانتاجات الثقافية المدعّمة من الدولة حول دفع الخطرالإسلامي، لئن كان بورقيبة أقل تضييقا على الفكر فإن بن علي كان يمنع دخول الكتب الدينية ويضيّق على كل ما هو فكري معارض لثقافة "الدواجن" التي كان يتبناها.... وهكذا فإن المشهد الثقافي أصبح مغلقا وفي خدمة نزوات السلطة بما تعتبره مناعة وهمية للشعب من الخطر المحدق، شعب قدر له خوض حرب مع طواحين الهواء وسلّم بقبول الجرعات الثقافية الموجّهة والمقدّرة بمقاديرمراقبة ومحددة في صورة شبيهة بنزيل المستشفى حيث كانت أجهزة البوليس تعقّم المنتج الثقافي ثم تؤشّر لتمريره وقاية للعليل من التسمّم... ثقافة قدّر لها أن تكون في خدمة الحزب لا الوطن في خدمة الزعيم لا الشعب... تشابهت الأنظمة العربية في تأسيس ثقافتها على الثنائيات واختلفت العناوين: إسلام حداثة، رجعية تقدمية، دولة دينية، دولة مدنية وتحولت الثقافة إلى سقف حديدي يحمي الحداثة من الأصولية (تونس) ويحمي الإسلام من الحداثة (دول الخليج) وأراد لها الزعماء ان تكون ثقافة النهاية والانتصار والوصول وحرموها من حق مواصلة الحراك والارتباط بحاجات الشعوب المتغيرة، فتخلى المثقف العضوي عن دور الكفاح المتواصل وطرح أفكارسابقة لعصره متقدمة عن فكر العامة.... أما المثقف التقليدي ( كل من له علاقة بصناعة المعرفة أو نشرها حسب تعريف غرامشي ) فأصبح يكنّى بالطبقة المتوسطة يقترن ذكرها بالحديث عن غلاء المعيشة حيث وقع تحويله إلى جسم مشلول وظيفته الأساسية كسب لقمة العيش ولا تأثير له في الرأي الجمعي . بعد أن فاجأت الثورات الدارسين والباحثين وبعد أن سادت حالة التشرذم والانقسام داخل الشعوب بعد الثورة يعود الحديث بقوة عن المثقف ليقوم بدوره الفعال وينجزالخطوات الضرورية للتكيف مع الواقع الفريد فظهرت المواقف متباينة بين مبارك للثورات ورافض لها أو بين متحفظ عن بعضها ورافض لبعضها الآخر، إذ يرى عزمي بشارة وعبد السلام المسدي مثلا أن المثقف لا يمكنه مواصلة تبني نفس الأطروحات المؤسّسة على الثنائيات وعليه أن يلتحق بالشعوب التي أنجزت الثورة والقيام بالمراجعات اللازمة إقرارا منهما بتقصير المثقفين وعجزهم عن الأخذ بزمام المبادرة والفعل وارتكانهم إلى الإيديولوجيا، ويفسر آخرون أدونيس وهيكل مثلا الأوضاع تفسيرا "مؤامراتيا" خاصة بعد اندلاع الثورة السورية، وتشبثت بعض النخب التونسية بطرح نفس الأفكار دون أن تعادي الثورة وحاولت التموقع من جديد مستنفرة قواها المتنفذة والمتغلغلة في كل مفاصل الحقل الثقافي التونسي فكانت إطلالة النوري بوزيد في أول فلم بعد الثورة قريبة من "الحمّام" بثنائية السلفية والحداثة، الحجاب والسفور مجانبا مآسينا وفقرنا مرة أخرى، وبقي الإبداع الفني خاصة حكرا على نفس الوجوه التي تنمطت في نسخة موحدة تصم كل من يحاول الولوج لعالمها بالتطفل على الفن مستغلة بعض الأحداث العرضية لرفع عقيرتها عاليا بأن الفن في خطر وأن تماهيها مع النظام كان مبررا، مستغلة ما تملكه من مواقع قوة في المؤسسات الإعلامية المتحالفة معها بحكم أركان الأنظمة التي كانت قائمة لجلب التعاطف معها ووجوب حمايتها مبدية استماتة كبيرة في الدفاع عن مصالحها ومواقعها حتى أن بعض الفنانين يفصح صراحة عن حنينه للنظام السابق ... في مقابل كل ذلك يحاول مثقفونا المناضلون، ورغم ظهورهم الإعلامي المحتشم ، نفض غبار النسيان ليأخذوا مكانهم للتأسيس لثقافة جديدة قوامها الانحياز للإبداع... والاقتراب من هموم الناس المتطلعة للكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والنأي بالنفس عن التجاذبات وأن يبلور موقفه من خارج الصراع فيؤثر ولا يتأثر ولا يوظَّف... اخترت عدم الغوص في تحليل مواقف المثقفين بعد الثورة واكتفيت ببعض الأمثلة لاعتقادي بأن الحدث كان مفاجئا وسيكون هادما لعدة رموز وعناوين تمشيات تمسك بها المثقف لعقود، في انتظار أن تتشكل الأفكار وأن تترتب المشاهد ويتكثف الوعي بالأفكار الجديدة التي ستظهر بفضل المساحة الحرة والخصبة المتاحة إعلاميا وفي كل ما له علاقة بالثقافة تعدد الألوان في المسرح والشعر والسينما والأدب والفكر من شأنه أن يطورقدرة المواطن على التمييز والاختيار وسيتمكن من بناء رأي عام جمعي تصيرمن خلاله الثقافة طريقة للعيش وقوة داخلية لتطويرالذات .... الفترة قادمة قد تطول لنرى ثقافة قادرة على تنويرالسبيل حينيا وانتشالنا من غيابات الضياع في المستقبل دون أن تنتصر لأن في انتصارها نهاية والثقافة بلا نهاية...