خلفت عملية اغتيال الشهيد شكري بلعيد وقعا في نفوس معظم التونسيين بما في ذلك أولئك الذين لا يفقهون السياسة ولا يعرفون ماهية اليسار، تيار اليسار الذي لم يجد حظه في تونس حتى في انتخابات 23 أكتوبر. وما إن توحدت القوى اليسارية في تيار «الجبهة الشعبية» وبدأت تنسج خطاها علها تجد حظها في الانتخابات القادمة حتى وقع اغتيال أحد أبرز قيادييها والذي أثار بدوره تعاطف العديد وخلف تحركات شعبية عفوية لم يسبق تأطيرها من قبل حزب سياسي أو هيكل نقابي. فهل من شأن اغتيال شكري بلعيد أن يقلب موازين القوى لصالح الجبهة الشعبية ويساهم في رفع أسهمها خلال الانتخابات القادمة؟ يرى المؤرخ والناشط في حركة «برسبكتيف» سابقا عبد الجليل بوقرة أنّ اغتيال المنسق العام لحزب «الوطنيون الديمقراطيون» شكري بلعيد يعدّ فرصة تاريخية نادرا ما توفرّت لليسار التونسي طيلة تاريخه. ودعا بوقرة قياديي اليسار التونسي إلى استثمار هذه الفرصة التي «قد تمكّنهم من تغيير موازين القوى لصالحهم»، على حدّ قوله. وشدّد محدّثنا على وجوب استثمار اليسار التونسي لحادثة شكري بلعيد جيدا خاصة في ظل تلقائية التحركات الاحتجاجية، فقد أكدّ بوقرة أنّ من شأن عدم تأطير التحركات العفوية والشعبية وتوجيهها نحو أحداث مرحلية وواضحة أن يتسبب في انقلابها ضدّ اليسار نفسه وتنحرف إلى متاهات غير مرغوب فيها من الجميع. اليسار في مرحلة الهواية السياسية.. وعليه استغلال الحدث اعتبر المؤرخ عبد الجليل بوقرة أن اليسار التونسي لا يزال حاليا في مرحلة الهواية السياسية ولم يستطع بعد الارتقاء إلى العمل الفاعل، وهو ما يشجعه حتما خلال هذه الفترة على أن ينضج سياسيا، قائلا: «إن الظروف الحالية مواتية جدا لليسار لتغيير موازين القوى جذريا لصالحه ولذلك فهو مطالب بالوجود المستمر على الميدان ووجوب قرب قيادييه من الجماهير وعدم تركهم يسقطون في الانفعالات وردود الأفعال المستفزة». كما اعتبر بوقرة أن الفرصة مواتية لقيادات الجبهة الشعبية لإثبات نضجهم السياسي وتحمل مسؤوليتهم أمام الشعب من خلال تمسكهم بحكومة أزمة مضيقة وتحديد تاريخ واضح للانتخابات التشريعية والبلدية مع حرصهم على وجوب المطالبة بتحييد المساجد عن السياسة، «فمن شأن هذه المطالب أن تعكس حرص الجبهة الشعبية على حماية مصلحة الشعب»، واعتبر القيادي في حركة «برسبكتيف» سابقا عبد الجليل بوقرة أن حادثة اغتيال شكري بلعيد جعلت الجبهة الشعبية تمثل لدى العديد دور الضحية ومن المؤكد أنها ستدفع بالبعض إلى البحث في ماهية اليسار التونسي، وهذا في حدّ ذاته مؤشر إيجابي بالنسبة إلى الجبهة الشعبية. حديث المؤرخ عبد الجليل بوقرة عن الجبهة الشعبية «الضحية» يذكّرنا بحركة النهضة التي ما فتئت تستثمر دور «ضحية بن علي» خلال انتخابات 23 أكتوبر، وهو ما ساعدها على الحصول على نسبة هامة من الأصوات. كما أن مختلف تجارب العالم أثبتت أنّ الضحية السياسية عادة ما تجد حظها في الانتخابات حتى وإن كانت بعيدة عن الشعب وعن المجال السياسي، وهو ما يجرنا إلى الحديث عن سعد الحريري الذي دخل معترك الحياة السياسية على إثر اغتيال والده رفيق الحريري. فرغم أن سعد الحريري بعيد كل البعد عن السياسة وكان نشاطه منحصرا في البداية في إدارة الأعمال، فقد تولى رئاسة حزب أبيه «تيار المستقبل» ثم تمّ انتخابه نائبا في البرلمان عام 2005 عن مقعد السنة في دائرة بيروت إلى أن انتخب رئيس وزراء لبنان، وهذا في إطار تكريم والده رفيق الحريري الذي خدم لبنان كثيرا إلى أن أفقدته حياته. «ضرورة استثمار اليسار لاغتيال شكري بلعيد وإمكانية صعود أسهم الجبهة الشعبية»، كما أكد الأستاذ عبد الجليل بوقرة، دفع بنا إلى الاتصال بالقيادي في الجبهة الشعبية محمد جمور الذي صرّح بأن اغتيال شكري بلعيد سيساهم في رفع الوعي لدى التونسيين بأهمية اليسار التونسي و»عدم جرمه وشيطنته»، كما يعتقد البعض، قائلا: «بالعودة إلى آخر تصريحات بلعيد سيكشف الشعب مدى صدقية مواقف هذا الرجل ومواقف الجبهة الشعبية التي لا تختبئ وراء الخطاب المزدوج». واعتبر جمور أن تعاطف الشعب مع الفقيد شكري بلعيد هو في حدّ ذاته «تعاطف مع الجبهة الشعبية»، على حدّ تعبيره. القيادي في الجبهة الشعبية الشهيد شكري بلعيد الذي كان ينظر إليه على أساس أنه رئيس حزب ومناضل حقوقي بات اليوم زعيما وطنيا في مرتبة فرحات حشاد وبات رمزا لليسار التونسي. خولة السليتي
النهضة أكبر متضرر من اغتيال بلعيد! شعارات مناوئة لحركة النهضة.. مطالبة بإسقاط النظام..سخط على حكومة الترويكا.. غضب من قياديّي حركة النهضة وحزب المؤتمر.. هذه المشاعر وغيرها تخالج نفوس عديد التونسيين، فهل يعكس ذلك سقوط حركة النهضة لدى فئة من التونسيين؟ يرى المختص في علم الاجتماع السياسي طارق بلحاج محمد أن حركة النهضة سقطت أخلاقيا منذ البداية تحت عنوان «الشرعية»، فقد اعتبر بلحاج أن مؤشرات هذا السقوط بدأت تبرز للعيان منذ مناقشة قانون التنظيم المؤقت للسلط، قائلا: «حين شددّ نواب كتلة النهضة على الحالات الاستثنائية ومن ستؤول له السلطة في هذه الحالات، فذلك أكدّ أنهم واعون بأنهم هم من سيخلقونها هذه الحالات الاستثنائية بهدف مصادرة الحكم والسلطة إلى الأبد، وها نحن نرى تداعيات ذلك اليوم من خلال رفض مقترح الجبالي». وأشار في هذا الصدد إلى بدء تنفيذ هذا السيناريو بإصدار العفو على المجرمين، وهو ما ساهم بدوره في الوصول إلى هذه الفوضى مما يدفعنا إلى الحديث عن «مقايضة أمن التونسيين وسلامتهم الجسدية ببقائهم في الحكم»، على حدّ قوله. واعتبر المختص في علم الاجتماع السياسي أن سقوط حركة النهضة لدى فئة من التونسيين برز من خلال الأناس الذين نزلوا إلى الشارع وأعربوا عن غضبهم من اغتيال شكري بلعيد، وهذا يبرز من خلال الشعارات التي تم رفعها بفضل غريزتهم الرافضة للعنف. وأضاف محدّثنا قائلا: «إن سقوط الحركة ينعكس كذلك من خلال حرق حوالي 14 مقرا منذ نشر خبر اغتيال القيادي في الجبهة الشعبية شكري بلعيد». وأدان بلحاج محمد بشدة سعي البعض من القيادات إلى تبرير عملية اغتيال شكري بلعيد «بسماجة واستبلاه وبرودة دم»، حسب تعبيره. وأشار في هذا الصدد إلى تصريح وزير الصحة عبد اللطيف المكي عندما قال: «اغتيال شكري بلعيد رسالة إلى حمة الهمامي». كما استنكر محدّثنا محاولة تبرير البعض لعملية الاغتيال من خلال استشهادهم باغتيال بعض القادة السياسيين في مختلف الدول الديمقراطية، «وكأن تونس بالنسبة إليهم متعودة على هذا النوع من الاغتيالات أو من أنه شأننا التعودّ لاحقا على هذه الاغتيالات لكي لا نكون منفردين سلميا»، على حد قوله. وتساءل في هذا الصدد قائلا: «ألازال بمقدورنا بعد ما استمعنا إليه أن نتحدثّ عن أخلاق سياسية». وأضاف قائلا: «هذا السقوط لا يتعلق بحركة النهضة فقط وإنما بحزب المؤتمر أيضا خاصة في ظل مساندتهما المستمرة لرابطات حماية الثورة، وهو ما يعكس تشريعهما للعنف سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة»،واعتبر المختص في علم الاجتماع السياسي أن المثل الشعبي «القائل يأكلون مع الذئب ويبكون مع الراعي» ينطبق على حزبي النهضة والمؤتمر. "موت شكري بلعيد مسيس للأسف" من جهتها، ترى يمينة الزغلامي نائب حركة النهضة في المجلس الوطني التأسيسي أن حركة النهضة بمنأى عن هذا السقوط، قائلة: «ما راعنا هو جملة الاتهامات التي تمّ كيلها لحركة النهضة ولكن المشكل أن موته كان مسيسا، ولكن شخصيا أرفض الحديث الكثير في هذا الموضوع لأني أرفض البيع والشراء في شكري بلعيد».وأكدّت نائبة حركة النهضة أنها تمنت وبقية زملائها من كتلة النهضة حضور مراسم دفن شكري بلعيد "ولكن المشكل أن وفاته تسيسّت". وشددّت محدّثتنا بالقول: «من كان يراهن على وفاة شكري بلعيد ويسعى إلى ركوب الحدث وتشويه صورة حركة النهضة وتخريب البلاد، نقول له لن تفرح بذلك". وأضافت قائلة: «نحن لا نخشى الشارع ولا الشعب لأننا من صلب هذا الشعب، وهمّنا الوحيد كحركة نهضة هو إنشاء هيئة الانتخابات وتأمين الفترة الانتقالية القادمة وهنيئا لمن يفوز ومن جهتنا سنكون معارضة بناءة».