لا ندري أي ريح هبت على المسؤولين في البلاد، أو أية حشرة لدغتهم فراحوا يتسابقون في الادلاء بتصريحاتهم ومواقفهم مما يحدث في البلاد على المنابر الاعلامية الخارجية والصحف الاجنبية، وكل يتصور أنه يملك المفتاح السري للازمة في البلاد وبدونه ستكون الكارثة، والكل أيضا له حساباته الخاصة ورسائله للخارج بأنه الأكثر انفتاحا على العالم والاكثر ثقة وقدرة على الالتزام بأهداف الثورة... بالأمس، وفي الوقت الذي لا تزال الساحة السياسية تواجه تداعيات جريمة اغتيال الشهيد المناضل شكري بلعيد، وحتى قبل أن يستفيق الشارع كليا من آثار الصدمة التي اهتزت لوقعها البلاد، كان رئيس الجمهورية المؤقت يصرح لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية بأن تونس "امتصت صدمة" اغتيال المعارض شكري بلعيد، ويؤكد أن البلاد تعبر الاختبار بدون اضرار كبرى "ليمضي ساكن قرطاج الجديد في تحليله للوضع بأن "البلاد لا تشهد حربا وأنه ليس هناك قتيل واحد ولا حتى جريح بقي البلد هادئا بمجمله وحتى التظاهرات المضادة جرت بهدوء... تمكنا من امتصاص الصدمة"... طبعا نتفهم موقف الرئيس المؤقت ودوره في تغليب منطق الهدوء والابتعاد عن كل ما يمكن أن يزيد الطين بلة ويثير الفتنة في البلاد في مرحلة لا تخلو من الحساسية، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون على طريقة استبلاه الرأي العام والاستخفاف به. فهل تحتاج تونس لمزيد القتلى حتى يدرك الرئيس المؤقت حجم الازمة أم أننا في حاجة للدخول في حرب حتى يقتنع بخطورة المرحلة وبما يمكن أن تؤول اليه في حال استمر الوضع على حاله و تحولت وعود السيد رئيس الحكومة بتشكيل حكومة تكنوقراط الى مجرد مناورة لربح الوقت وتهدئة الخواطر قبل العودة الى النقطة الصفر. ولو أن السيد الرئيس المؤقت نظر الى المشهد بواقعية بعد أن أزال النظارات الحشبية التي تحجب عنه حقيقة المشهد في البلاد لكان أدرك حجم الاحتقان الحاصل في النفوس وما يمكن أن تؤول اليه جريمة اغتيال شكري بلعيد في حال استمر الوضع على حاله بين حلفاء الترويكا الذين جمعتهم لعبة المصالح فما عادوا اليوم قادرين على اخفائها بعد أن خانتهم ألسنتهم وباتت نظرية الغنيمة والكعكة الحاضر الدائم في مختلف المداخلات والحوارات التلفزية تحت غطاء الشرعية... تصريحات الرئيس المؤقت باتت أشبه بالنوادر التي قد تدفع للتساؤل فعلا عما اذا كان الدستور الصغير أو قانون تقسيم الصلاحيات الذي حدد مسؤولياته نقمة أم نعمة على البلاد. فقد تعددت المواقف المتناقضة الى درجة بات من الصعب ان تنسبها للمرزوقي الحقوقي قبل أن تغيره السلطة وتطغى عليه ملامح الحاكم المتمسك بالكرسي أكثر من أي شيء آخر ولو أن الرئيس المؤقت أعاد النظر في حال البلاد لكان اقتنع بأن النيران التي أحرقت جسد البوعزيزي لم تخمد بعد وأن الرماد قد يثور مجددا ليلهب المشهد إذا تحولت جريمة اغتيال بلعيد الى حدث عابر... صحيح أن السياسة مناورة والسياسة لا تعرف المهادنة ولكن السياسة مواقف ومبادئ لا تقبل المساومة والابتزاز عندما يتعلق الامر بمصير البلاد في مواجهة الازمات الصعبة، وما تعيشه بلادنا اليوم منذ اغتيال شكري بلعيد أسوا أزمة منذ انتخابات 23 أكتوبر وهي أزمة مرشحة لكل الاحتمالات ولكل السيناريوهات في ظل تفاقم الصراعات ومحاولات الشد والجذب بين عناصر الترويكا جميعها في سبيل انقاذ مواقعها وحقائبها أو الفوز بما تصفه بوزارات السيادة والحال أن المشهد يكاد يفتقر للسيادة التي يتحدثون عنها... المواقف الكاريكاتورية للمسؤولين في البلاد تحولت الى مصدر للقلق والملل لدى التونسيين وخطاب الشرعية لم يعد مقنعا فالشرعية بالاضافة الى أنها شرعية قانونية تبقى شرعية أخلاقية وسياسية قبل كل شيء وهذا ما يتعين على ممثلي الشعب الكرام فهمه أيضا قبل التحصن بورقة الشرعية التي منحهم إياها الشعب... والكلام قياس، فان الامر قد ينسحب على السيد رئيس المجلس التأسيسي بدوره وفي تصريح لصحيفة الخبر الجزائرية رد على المطالبين بحل المجلس بالتساؤل عمن سيحمل مفتاح الحانوت بعد ذلك ونسي السيد مصطفى بن جعفر ذلك المثل التونسي القائل "حانوت مسكر ولا كرية مشومة "... أما بالنسبة لرئيس الحكومة فان تفعيله لما جاء على لسانه من التزامات أمام الشعب بأن حكومة تكنوقراك هدفه وغايته لاخراج البلاد من عنق الزجاجة ستكون وحدها الحكم على نواياه في تغليب الوطنية على المصلحة الحزبية وإرادته في تجنيب البلاد السقوط الى الهاوية والتصرف كرئيس حكومة كل التونسيين وليس فئة دون غيرها... ولا شك أن السيد حمادي الجبالي يدرك جيدا أن القرار الفصل والمرور الى الفعل لا يمكن أن يتأجل الى ما لا نهاية...