تتوالى القضايا وتتشابه ضد حسين العبيدي إمام جامع الزيتونة المقال من قبل وزارة الشؤون الدينية منذ أشهر طويلة والذي لا يزال متمسكا بمنصبه هذا لا يتزحزح عنه متحديا الوزارة بدعوى أن جامع الزيتونة يتمتع بالاستقلالية التامة بمقتضى وثيقة وقعها في 12 ماي 2012 ثلاثة وزراء يرى أنها تقر هذه الاستقلالية بينما يرى من وقعوها أنها لا تعدو أن تكون إلا وثيقة شكلية رمزية وعبارة عن بروتوكول لا غير لا يلزمهم في شيء. وفي الواقع فإن امضاء هذه الوثيقة فتح الباب أمام مسلسل ركيك ورديء الاخراج لا يشرّف المشاركين فيه ولا جامع الزيتونة المعمور هذه المؤسسة العريقة . فالقضايا المنشورة اليوم ضد من يعتبر نفسه إماما وناظرا لجامع الزيتونة ومؤتمنا على إعادة "التعليم الزيتوني الأصلي" (الذي "اغتاله" حسب طرحه وطرح راشد الغنوشي بورقيبة في غفلة من الجميع واستولى على أملاكه الشاسعة التي لا تحصى ولا تعد) عديدة بعضها مدني وبعضها الآخر جزائي وأغلبها في "افتكاك حوز بالقوة" وفي الاعتداء بالعنف ! وآخرها القضية الجزائية المرفوعة والتي لن تكون حتما الأخيرة ضد الإمام المذكور من قبل بلدية تونس وجمعية الدراسات الدولية الشاغلة للخلدونية إلى جانب جمعيات أخرى . فمن هو حسين العبيدي؟ وممن يستمد "قوته" وتحديه للدولة ومؤسساتها واستعصاءه على وزارة الشؤون الدينية المشرفة بحكم القانون على إدارة المساجد وتنظيمها وتعيين القائمين عليها؟وهل أن الزعيم بورقيبة كما يدعي "الشيخ" مورط حقا في جريمة قتل التعليم الزيتوني خدمة لأجندات غربية استعمارية وتحطيما للهوية التونسية؟ الحنين إلى الصواري لا أحد ينكر ما قدمته الزيتونة منذ انشائها، و"بصمتها" الواضحة في تغلغل الإسلام المتسامح المعتدل في هذه الربوع ونزعتها الإصلاحية الحداثية إلا أن ما لا يمكن إنكاره أيضا هو أنه دخلتها شيئا فشيئا هنات وعيوب كثيرة ومالت إلى الانغلاق والتحجر ولذا فأن يقدّم التعليم الزيتوني اليوم كأنه جوهرة ومفخرة وأن الزعيم بورقيبة قضى عليه خدمة لأجندات استعمارية تغريبية هو مغالطة تنم عن إما عن جهل بالسياق التاريخي الذي ساهم في اتخاذ هذا القرار وأما عن سوء نية وطوية واما عن حنين طفولي إلى الصواري أي إلى حلقات الدروس في ظل الصواري في الجوامع التي لا تخلو ذكراها اليوم من جاذبية وسحر بحكم موروثنا الثقافي وبحكم محيط طفولتنا جميعا. جمود ومحسوبية فما يتغافل البعض عن ذكره اليوم هو أن قسما هاما من الزيتونيين كانوا في مقدمة المطالبين بإصلاح هذا التعليم، ومن الأوائل منذ أربعينيات القرن الماضي في القدح في موادها ومنهجية تعليمها إذ بقي تعليمها تقليديا تجاوزه العصر ودخلت مرحلة ترد وتقهقر عجزت عن تجاوزها. كما أنها غذت التفرقة الجهوية بشهادة العديدين ممن درسوا بها وحتى المحسوبية وذلك بأن قسمت تلاميذها إلى "بلدية" و"أفاقين" ووصل الأمر إلى أن أصبحت كل صارية من صواريها حكرا على أستاذ من عائلة "بلدية" وتكاد تتوارثها أبا عن جد إضافة إلى المحاباة في إسناد الأعداد ومنح الشهائد. بل إن هناك من يرجع تقهقر اشعاع الزيتونة ومحاولات اصلاح تعليمها الى أبعد من ذلك بكثير فالدكتور المؤرخ اعلية العلاني يذكر أن "الصراع مع الزيتونة والفكر الزيتوني بدأ منذ عهد خير الدين باشا الذي اصطدم مع شيوخ الزيتونة عند الرغبة في اصلاح التعليم الزيتوني ولكنه فضل ان لا يدخل في مواجهة مع المؤسسة أو أن يغلقها بل أنشأ بجانبها معهد الصادقية سنة 1875 الذي يجمع بين الثقافة العربية الاسلامية والثقافة العصرية". أي أن قرار بورقيبة بتوحيد التعليم العمومي كان يندرج في نطاق سياق تاريخي معين ويسير في تناغم معه ويمثل استحقاقا رئيسيا من استحقاقات الكفاح ضد الاستعمار. فالغاء التعليم الزيتوني الأصلي وتعويضه بكلية الشريعة واصول الدين كان في نهاية الأمر وجها من أوجه الاصلاح الهيكلي للتعليم برمته كما انه لا دخل لهذا الاصلاح اطلاقا في موجة الانغلاق الذي يكتسح قطاعات من مجتمعنا اليوم، فتلك مغالطة سخيفة أخرى. أصالة وتفتح فالجيل الأول وحتى الثاني الذي تخرج من مدرسة الاستقلال وجامعاتها في السبعينات وبداية الثمانينات كان جيلا متنورا متفتحا على العصر ومتأصلا في دينه وتقاليده اما النزعة للتطرف ولتبني اطروحات وهابية فهي حديثة نسبيا وتتطلب دراسة أسبابها حيزا أوسع من هذا المقال إلا أنه يمكن القول ان ثورة الاتصالات ومليارات البترو دولار ليست غريبة عن واقع هذه الحال إضافة على حالة التصحر الفكري والثقافي والسياسي الذي خلقتها دكتاتوريات الجيل الثاني من الحكام العرب لفترة ما بعد الاستقلال اضافة الى العوز المادي الذي تسببت فيه أنظمتهم لقطاعات عديدة في المجتمع والفقر والجهل يمثلان دائما كوكتالا للتطرف قابلا للانفجار في أي لحظة. وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد الحداد الجامعي وأستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة "إن ظهور الجماعات الدينية المتطرفة ليس مرتبطا بالإبقاء على المؤسسات الدينية التقليدية فالأزهر استمر في مصر ولكن مصر كانت اكبر منتج للتطرف" ولا يغيب علينا في هذا المجال وتأكيدا لما ذهب إليه الاستاذ الحداد الاشارة الى أن المغرب بلد "جامعة القرويين" واليمن بلد "جامعة الايمان" لم يسلما هما أيضا من التطرف بل ان رئيس جامعة الأيمان اليمنية قاد بنفسه في 2010 مظاهرة مليونية معارضة لتحديد سن أدنى لزواج البنت ! زيتونيون... دستوريون وفي الحقيقة لم ينقطع التعليم الزيتوني أبدا بعد الاستقلال بل تحول الى تعليم عال مهيكل في كلية الشريعة وأصول الدين التي أصبحت تدعى في ما بعد الجامعة الزيتونية ولها معاهدها ومخابر بحث وأساتذتها حاملون شهادات جامعية عليا والغريب في الامر انه وقع استثناؤهم من "مشروع" عودة "التعليم الزيتوني الاصلي" تصورا وانجازا ومشورة. والزيتونيون ساهموا في بناء مؤسسات دولة الاستقلال بحماس واخلاص وكانت صفوف الحزب الحر الدستوري بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة مليئة بهم، خصوصا كمسؤولين قاعديين وكمناضلين خلص، مؤمنين برسالة دولة الاستقلال في التحديث والتنوير. جسد مريض اما طلبة الزيتونة الذين يقاربون 27 ألفا فقد ألحقوا بمؤسسات التعليم العمومي، ولم يكن هناك أي انتقام أو تشف من التعليم الزيتوني، فجميع مدرسيه ألحقوا بوزارة المعارف، كل ما هناك هو انه كان هناك قناعة واقتناع حتى لدى عديد الزيتونيين أن تعليم المؤسسة تجاوزه الزمن لا غير، وأن البناء من جديد بعث جامعة الزيتونة على أسس سليمة أسهل وأنجع واجدى من اصلاح وترميم القديم المتهالك، فالشيخ العلامة الطاهر بن عاشور نفسه رسم صورة لا لبس فيها عن الزيتونيين في رفضهم لأي اصلاح ومقاومتهم له "تلك عادة عرفوا بها.. (وهم) يقاومون كل طلب للاصلاح ولو كان صوابا وهذه طريقة الحذر انها تأتي من قلة غوص الافهام" (1). وفي نفس المعنى يذكر صلاح الدين الجورشي (في منتدى تونس للوسطية في جويلية 2012) أن الشيخ العلامة محمد الصالح النيفر قال له قبل مماته "المؤسسة نخرتها أمراض عديدة". وقبلها كان المصلح الطاهر الحداد ندد في مواقع عديدة من كتبه ومقالاته بعقم التعليم الزيتوني وبقصور برامجها وبطرق تدريسها المعتمدة على التلقين واجهاد الحافظة (الذاكرة). رضي الله عنه وأرضاه قصة إمامة جامع الزيتونة ومعركة إحياء التعليم الزيتوني انطلقت في 19 مارس 2012 لما تحصل الحسين العبيدي على حكم قضائي يلغي قرار الرئيس الحبيب بورقيبة لسنة 1958 القاضي بايقاف التعليم الزيتوني. وقد اعتبر العبيدي أن هذا الحكم بمثابة "الوكالة" التي تسمح له بأن يتبنى هذا "المشروع العظيم" وبأن يتولى مهام الامام الاكبر للجامع الاعظم وأن يصبح ناظرا له. وللأسف فان ثلاثة وزراء (الشؤون الدينية والتربية والتعليم العالي) وضعوا أنفسهم في ورطة حقيقية لما منحوا نوعا من الشرعية للمطامح اللامحدودة لهذا الشخص وذلك بتوقيعهم يوم 12 ماي 2012 على وثيقة تنص من جملة ما تنص عليه على أن "جامع الزيتونة مؤسسة اسلامية علمية تربوية مستقلة غير تابعة". وقد حضر حفل التوقيع الذي اعتبره العبيدي حفل افتتاح رسمي لإعادة "التعليم الزيتونة الأصيل" السيد راشد الغنوشي والواعظ البشير بن حسين ومجموعات ملتحية تحمل... راية سوداء ! وهو ما كان من شأنه أن يدفع الموقعين على الوثيقة، وبالأخص وزير التربية المنتمي لحزب التكتل الى التفكير مليا قبل انزال توقيعهم في الوثيقة المذكورة الا ان ذلك لم يحصل. ولم يكن وزير التربية ايضا يعرف انذاك باب الجحيم الذي فتحه على نفسه والذي سيطال ايضا حتى وزيري الشؤون الدينية والتعليم العالي "النهضاويين". الحفل المذكور الذي اريد له ان يكون مهيبا لم يخل من الطرائف اذ رحب خلاله حسين العبيدي بالغنوشي قائلا في مرة اولى "رضي الله عنه وأرضاه" وقال في مرة ثانية "لقد شرفنا بحضوره رضي الله تعالى عنه" مما اثار امتعاض البعض واستهزاء البعض الاخر وتفكههم وازاء الزوبعة التي ثارت دافع العبيدي عن نفسه مستبعدا تهمة التملق الرخيص ذاكرا انه قصد بكلامه الدعاء للغنوشي لا غير واتهم خصومه بجهل قواعد اللغة العربية وتورياتها. ملاحظة يندرج هذا المقال في اطار سلسلة من المقالات "المترابطة المنفصلة" في نفس الوقت حول موضوع محاولة اعادة التعليم الزيتوني الاصلي و"مسلسل" القضايا المدنية والجزائية المنسوبة للامام حسين العبيدي الذي يعتبر نفسه "الامام الشرعي" للجامع الأعظم وتعتبره "السلطة الشرعية" في البلاد "مارقا" على القانون ونصب نفسه بنفسه! ◗ جمال الدين بوريقة