كانت نوايا أقطاب الثّورة المضادّة أن يقع إسقاط النّظام والشّرعية بموت شكري بلعيد، وقد استغلّوا جنازته ليعلنوا الإضراب العام بالبلاد، هذا المطلب الذي تفلّت منهم يوم 13/12/2012 وتحسّروا على ذلك وغضبوا وأزبدوا وأرغدوا، ها هو الآن مرادهم قد أتاهم على طبق من ذهب. كان لا بدّ من وقوع المحظور وهو سفك الدم لكي يكسب فرسان الثّورة المضادّة جولة ونقاط في اتّجاه احلال الفوضى. ولكن هيهات، فقد مرّ ذلك اليوم ولم يتحقّق مرادهم من إسقاط الشّرعيّة بفضل تظافر الجهود من جميع الشرفاء في هذا البلد الطّيب أوّلهم كان الأمن الوطني الذي استرجع الثّقة بل أصبح يقدّم الشهداء من أجل أمن الوطن. إذن، تقاطعت المصالح والأدوار في عمليّة الإغتيال بين إمكانيّة وجود آثار لأيد خارجيّة من جهة، وبين أبناء فرنسا الذين تملّكهم الخوف من نوايا الإسلاميين وما الإتّهام الذي توجّهت به ماري لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطنيّة الفرنسية للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في حديثها لقناة «بي أف أم تي في» من أنّه يعرف قتلة شكري بلعيد إلا دعما لكلّ ما نقول. بقي الآن الجواب عن لماذا تمّ الإختيار على الزعيم شكري بلعيد كمشروع اغتيال ؟. الملاحظ أنّ الفقيد شكري بلعيد كان أخطر لسان على كلا الطّرفين: أزلام النّظام وبقايا التجمّع ودعاة الإلتحاق بحركة نداء تونس من جهة وعلى التيارات الإسلاميّة بجميع أطيافها في البلاد وعلى رأسها حركة النّهضة . بالنسبة لمواقفه من الإسلاميين فهي غنيّة عن التعريف والتوضيح لأنّه إلى آخر رمق في حياته وهو يندّد بسياسات حركة النّهضة وبمن رآه تابعا لها من رابطات حماية الثورة وصولا بالحركات السلفيّة الجهاديّة . وأمّا ما هو مخفي من عدائه للتجمّع ولبقاياه وأزلامه فهذا أمر يحتاج إلى تعرية وتوضيح . لقد قالت عنه ابنته الصّغيرة على لسان أمّها في أحد الحوارات الصّحفيّة مايلي: « بن علي لا يحبّه أحد.. حتّى والدي لا يطيقه..» والملاحظ الآن أنّ الإستقطاب الثنائي بدأ يغري حركة نداء تونس شيئا فشيئا، فأخذت الأمور بجديّة، بينها وبين حركة النهضة أكبر القوى السياسية في البلاد وهي على ما يبدو قد عقدت العزم على الدخول في الإنتخابات القادمة بأكثر الحظوظ الوافرة في النّجاح ولم لا في التقدّم حتّى على حزب النّهضة معتمدة في ذلك على الفرقعة الإعلاميّة التي في ركابها وعلى الماكينة التجمّعيّة التي يبدو أنّها لا زالت قائمة وعلى شركات سبر الآراء المبتدئة . ولهذا توسّع التحالف السياسي سريعا في مرحلة أولى بين حركة نداء تونس وبين الحزب الجمهوري وحزب المسار وفي مرحلة ثانية التحق به كل من حزب العمل الوطني الديمقراطي والحزب الإشتراكي، وأصبح الإتّحاد من أجل تونس تحالفا خماسيا في بحر أسبوعين فقط. فالنّاس مستعجلون ولذلك لابدّ من استكمال حلقة الإستقطاب الثنائي بمحاولة التأثير على الجبهة الشعبيّة التي أخذت تتموقع في الساحة وتسرق البريق والأنظار وتقرأ لها الترويكا وبقيّة الأحزاب ألف حساب. ولهذا كان لابدّ لاستكمال حلقة الإستقطاب الثنائي التي أعجبت نداء تونس وأصبحت غايته من البدء وذلك بإجراء محاولات فتح حوار مع الجبهة الشعبيّة للإنضمام إلى التحالف، وإن عزّ ذلك في الوقت الحاضر، باعتبار عدم جدوى محاولات الحوار المكلّف بها الحليف محمّد الكيلاني ، فعلى الأقل التأثير على وحدة الجبهة وتماسكها باستمالة هذا الشقّ أو ذاك منها وعزل البقيّة وحصر حمّة الهمّامي في الزّاوية بإرجاعه يجدّف لوحده كالعادة خارج السّرب علما وأنّه من كان أكثر المعترضين على الحوار مع النداء هو الفقيد شكري بلعيد، هذا الزعيم القادم على مهل والذي لا يزال مشواره السياسي واعدا باعتبار صغر سنّه نسبيا وخطفه للأضواء في الآونة الأخيرة وسرقته بريق اللمعان حتّى من رفيق دربه حمّة الهمّامي . ولهذا، للحد من خطورة تأثير الجبهة الشعبيّة على الحياة السياسية في البلاد باعتبارها قوّة سياسيّة صاعدة، وسعيا لترك المجال مفتوحا للإستقطاب الثنائي بين النهضة والإتّحاد من أجل تونس، كان لابدّ من الدفع في الإعلام نحو التجييش ضد الإستقطاب الثنائي الإسلامي / العلماني وتلبيس هذا بذاك . وبالمحصّلة، فقد تلاقت المصالح جميعا في اغتيال شكري بلعيد، مصالح دوليّة ومصالح أحزاب داخليّة وذلك لإعادة البلاد إلى المربّع الأول من جديد والقضاء على الثّورة بالدعوة لانتهاء الشّرعيّة وتنفيذ الإضراب العام . ولهذا كان لا بدّ من حدوث عمليّة اغتيال لتحقيق الغاية التي عجزت عنها قوى الثورة المضادّة من قبل . فما إن وقعت حادثة الإغتيال حتّى توجّهت سهام الإتّهام مباشرة إلى حركة النّهضة وذلك لتلبيس التهمة إلى قوى الإسلام السياسي والمرور مباشرة إلى حلّ رابطات حماية الثّورة وإسقاط الشرعيّة وإحلال الفوضى في البلاد واستدعاء الجيش للتدخّل وبالتالي الدعوة إلى محاكمة حركة النهضة وصولا إلى قرار بحلّها ومحاكمة رموزها وعناصرها والهجوم على التيارات السلفيّة المتشدّدة وبذلك يكتمل السيناريو المسطّر من قوى الثّورة المضادة للإعلان عن عودة نظام المخلوع إلى الوجود من جديد لكن بوجوه ومسمّيات جديدة ثمّ المرور إلى تكرار سيناريو التسعينات مع الإسلاميين وهذا هو ما تخشاه التيارات الإسلاميّة جميعا وقد أيقن أبو عياض هذه الحقيقة فصرّح بأنّ «نداء تونس لن يمرّ إلا على جثثنا « وكاسترجاع للماضي نتذكّر جميعا « مؤتمر الإنقاذ « للتجمّع الدستوري الديمقراطي في جويلية 1988 وكيف شهد دخولا كبيرا لليسار الإنتهازي في مظلّة التجمّع ونتذكّر جيّدا الخطّة الأمنيّة الداخليّة للتجمّع التي باحت بأسرارها بعد انتخابات أفريل 1989 والتي تمّ تسريبها آنذاك وملخّصها التخطيط لاستئصال الإسلاميين والقضاء على كلّ ما يمتّ إلى الإسلام بصلة في البلاد وتوصية باستبدال حتّى المصطلحات والتسميات، فالإسلامي يصبح ارهابيا والشأن الإسلامي يصبح الشأن الديني.. وعلى إثرها بدأت ملحمة الإسلاميين في الصّمود تجاه آلة التجمّع في القمع والتطهير وتجفيف منابع الدين الإسلامي في البلاد . إذن ما الذي يحكم العلاقة الآن بين التيارين: الإسلامي والعلماني؟ الذي يحكمها هو سلطان الخوف. التيار العلماني يخاف من الإسلاميين وحتّى المعتدلين منهم ويتّهمهم باعتماد الخطاب السياسي المزدوج، وفي المقابل التيار الإسلامي يخاف من العلمانيين وخاصّة اليسار الإنتهازي عندما يتوحّد مع بقايا التجمّع لأنّه يرى فيهم مشروع اتّحاد من أجل تكرار سيناريو الإجتثاث الذي نفّذ في التسعينات. وما عمليّة اغتيال شكري بلعيد واتّهام النهضة بها إلا تمهيدا للمحاكمة وإن لم تكن محليّة فستكون دوليّة للوصول في الأخير إلى تحجيم دور الإسلاميين السياسي وحتّى القضاء عليهم على شاكلة سيناريو بن علي في التسعينات. بحيث، عندما تتّحد الإيديولوجيا مع آلة القمع وسلطة المال الفاسد يكون استهداف المستضعفين هو النتيجة الطبيعيّة لذلك كلّه، وهذا ليس استنتاجا من فراغ وإنّما هي سنن قصّها القرآن الكريم على نبيّه عليه الصّلاة والسّلام، فكان اجتماع فرعون (آلة القمع) وهامان (الإيديولوجيا) وقارون (المال الفاسد) مضرب الأمثال لذلك الفريق المتكامل في استهداف المستضعفين. ولذلك، وحسب رأيي كان موقف حركة النّهضة من مبادرة السيد حمادي الجبالي الداعية إلى تكوين حكومة كفاءات متراوحا بين الرفض والتطوير . أنظروا إلى وزارة الداخليّة في عهد الباجي قائد السبسي كيف لمّا تقلّدها السيد لزهر العكرمي وهو ظاهريا آنذاك من التكنوقراط ماذا صنع فيها ؟ . يمكن تذكّر فقط طمسه للحقائق والذاكرة التي كانت على جدران دهاليز الداخليّة وكيف بدهنه للجدران قضى على حقائق وذاكرة وطنيّة الله بها عليم ، وبدعوى الإصلاح قضى على كمّ هائل من أرشيف وزارة الداخليّة . وكم من أرشيف بمناطق ومراكز الأمن الوطني تمّ حرقه في عهد التكنوقراط لطمس معالم الجريمة وللحيلولة دون تحقيق إحدى أهداف الثّورة وهي المحاسبة . ولا زلنا نتذكّر تدنيس المساجد ومحراب بيت الله في عهد داخليّة الحبيب الصّيد تلك الكفاءة المحسوبة على التكنوقراط في اعتصام القصبة 3 صيف 2011 . ولا زلت أتذكّر كلمة قالها محاور لي وقفت معه لبعض الوقت في اعتصام القبّة بالمركّب الرياضي بالمنزه (اعتصام الأغلبيّة الصامتة التي تساءل عنها محمّد الغنّوشي عشيّة استقالته في 26/02/2011) ، قلت لا زلت أتذكّر كلمته وأنا أدافع عن المعتصمين في القصبة 2 ومن أنّ أولئك مناضلون ممّن نخرت أجسادهم السجون والمنافي. فأجابني بكلّ بساطة: «فليرجعوا إلى السجون؟». إذن سوف لن يكون الموقف من المبادرة سهلا مع تملّك سلطان الخوف .