كان من المفروض أن أقترح هذه المساهمة المتواضعة للنشرمنذ مدة عندما كان الجدل قائما حول مسودة الدستور، لكن حالت الظروف والأوضاع الخطيرة التي مررنا بها دون ذلك.إني أرجع إلى هذا الجدل لأن لقضية الدستورأهمية قصوى في هذه المرحلة رغم كل الرجات والاهتزازات السياسية والأمنية الراهنة. بالدستورالجديد سنحقق مستقبل تونس حتى وإن تعثرنا الآن في تثبيت المناخ السياسي الملائم لدفع المسارالانتقالي في الاتجاه الصحيح... إن الرياح العاصفة والمضادة قد تعرقل المسارالتاريخي لمدة لكن لا ولن توقفه... فلا شك أن تونس تمربأصعب وأدق محطة من المرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي، وكما تبين من المرحلة الأولى التي انتهت بانتخابات 23 أكتوبر 2011 وكما تؤكده كل التجارب العالمية في مجال الانتقال الديمقراطي فأساس تجاوزالمرحلة الثانية بأقل تكلفة مرهون بحصول توافق حقيقي ومتين يصمد أمام الهزات والارتدادات المتوقعة في مثل هذه الأوضاع التاريخية التي تعقب الثورات. مهما كانت أوتكون حصيلة الحراك المجتمعي في شكله السياسي خاصة أن وسع الوفاق ومتانته الفعلية يبقى العنصرالأساسي المحدّد لإنجاح المرحلة الراهنة . ربما غاب علينا في المدّة الأخيرة أن الثورة التونسية التي فتحت صفحة المسارالانتقالي كان لها بعد اجتماعي محوري مقترنا ومتكاملا بالبعد السياسي؛ حيث إن قيم الكرامة والحرية والعدالة تمزج بين الطبيعة الاجتماعية والسياسية للثورة. ونود في هذه المساهمة الوجيزة أن نسلط الضوء على كيفية تعاطي البعد الاجتماعي"المغيب ربما الآن لأنه يمثل في آخرالمطاف جوهر الثورة ومهما كانت التداعيات السياسية الطاغية الآن فآجلا أو عاجلا ستحتل الرهانات الاجتماعية والاقتصادية الصدارة لأنه وبكل بساطة لا كرامة ولا حرية بدون عيش كريم. إن صياغة الدستورالجديد فرصة لإدراك مدى أخذنا بعين الاعتبار وبصفة جدية قضايا التنمية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي قامت من أجلها الثورة وهي فرصة من باب الاختصاص المتواضع في شؤون التنمية والمقاربات الحقوقية لها أن أقدم بعض المقترحات عسى يقع الاستئناس بها. لابد من التأكيد في البداية على ضرورة الوفاق حول كونية حقوق الإنسان التي ترتكزعلى مقاربة شمولية تقضي بترابط وتكامل الحقوق وصدورالعهدين الدوليين حول الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في نفس اليوم دلالة على ذلك. كما أن الإعلان الدولي حول الحق في التنمية قد أكد بدوره على عدم تجزئة الحقوق وعلى إيلاء كل الحقوق أهمية متساوية ويعتبرالحق في التنمية تجسيما لكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالاعتماد على مبادئ المشاركة الشعبية والعدالة الاجتماعية. إذا ما أسلمنا بأن للثورة التونسية بعدا اجتماعيا أساسيا تجسم في المطلب الشعبي بالحق في التنمية (بالحق في الشغل خصوصا) وكذلك بالعدالة الاجتماعية فيتحتم على الدستورالجديد أن يعكس بقوة روح الثورة في بعدها الإجتماعي الشامل بعض المقترحات: التوطئة والمبادئ العامة من الضروري أن نولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المجسمة له الإعتبارالمناسب لأهميتها مع إلزامية التنصيص على كونية حقوق الإنسان والمواثيق والمعاهدات الدولية كمرجعية تتقاسمها البشرية. وفي إعادة صياغة التوطئة لابد من فقرة متناغمة ومتناسقة مع النص يؤكد فيها ما يلي: وفاء لروح الثورة وقيمها النبيلة العالية :الحرية والكرامة والعدالة. تمسكا بمبادئ المساواة بين الجنسين وعدم التمييزعلى أساس الجنس أوالإعاقة أوالفئة العمرية أوالاجتماعية أوالوسط أوالجهة أوالدين أو العرق... تجسيما للطابع المدني والديمقراطي والإجتماعي للدولة التأكيد على الاجتماعي اعتبارا أن الكرامة ترتكزعلى توفيرالرفاه الإنساني للجميع القائم على التنمية الاقتصادية والعدالة الإنسانية والاستدامة البيئية. في المبادئ العامة من الضروري صياغة فقرة خاصة في تناسق مع الباقي تنص بكل وضوح على ما يلي: تضمن الدولة الاجتماعية بناء على أسس المشاركة الشعبية والعدالة الاجتماعية الحق في التنمية الذي بشمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية الواردة في الدستوركما تلتزم الدولة بإعمال هذه الحقوق وتجسيدها الفعلي وأن تبذل جهدا متواصلا ومناسبا لتحقيق الغاية. في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية 1- الحق في العمل (فصل 26) : تضمن الدولة الحق في العمل اللائق أي في شغل منتج في ظروف ملائمة وحسب شروط عادلة لكل مواطن ومواطنة بدون تميي وبتساوي الفرص للجميع بالاعتماد على المعاييرالدولية المتفق عليها. كما تلتزم الدولة بسن التشاريع وإتباع السياسات وتعبئة الإمكانات الضرورية من أجل ذلك. ملاحظة: العمل اللائق مفهوم شامل ومتعدد الأبعاد ولا يختصرعلى الظروف اللائقة. 2- الحق النقابي (فصل 27) : تضمن الدولة الحق النقابي بما فيها المساهمة في الحوارالاجتماعي والإضراب وتمارس هذه الحقوق حسب ضوابط لا تتناقض مع المعاييرللدولة ولا تمس بجوهرها. ملاحظة: ينص العهد الدولي ذات الصلة أن الحق في الإضراب يمارس وفق القانون مع التأكيد على لزومية الامتناع بأي صفة كانت من إلحاق ضررما بالضمانات الواردة في العهد، وبالتالي فإن ممارسة الحقوق النقابية وإن تخضع إلى ضوابط غيرأن هذه الضوابط لا يمكن لها في كل الأحوال الإضرار بمضامينها. الحق في التربية تضمن الدولة للجميع الحق في تعليم عمومي مجاني جيد في كامل مراحله بما فيها ما قبل المدرسي Préscolaire كما تتعهد الدولة بمحوالأمية في أقرب الآجال الممكنة. ملاحظة: لابد من التأكيد على النوعية الجيدة للتعليم وعلى مرحلة ما قبل المدرسي لأهميتها القصوى في خلق ظروف تساوي الفرص حيث بات الآن عند كل أهل الذكر والخبرة في مجال التربية أن نوعية التربية ما قبل المدرسي تحدد بنسبة عالية جدا مصيرالطفل في المراحل الأخرى وتعمل كل الدول الآن بتدرج حثيث إلى تعميم التربية ما قبل المدرسي مع تعبئة كل الموارد الضرورية لأنها المدخل الأولي لتسجيم العدالة الاجتماعية. كما أن التنصيص على إلزامية الدولة لمحوالأمية هام لأن كل من له دراية بوضعنا يعلم أن نسبة الأمية مازالت مرتفعة جدا وتصل إلى مستويات قصوى 40% وأكثرفي عديد المناطق الريفية عند الإناث خصوصا. ولا يمكن أن نسنّ دستورا جديدا بدون إلزام الدولة بالقضاء في أمد متوسط على هذه الظاهرة بأنها وصمة عارلتونس ما بعد الثورة وهذا ممكن جدا. الحقّ في الصحّة تضمن الدولة الحقّ في صحّة جيّدة مع إيلاء عناية خاصة بالأمومة والطفولة المبكرة. هنا لابد من ذكرالنوعية الجيدة والأخذ بعين الاعتبارأن تونس مازالت تشكو من نسب مرتفعة بالمقارنة في الوفيات المتعلقة بالأمومة والطفولة المبكرة في عديد المناطق الريفية الداخلية خاصة ولا بأس أن يعكس الدستورالجديد هذا المعطى بإلزام الدولة ببذل جهد خصوصي في مجال صحّة الأم والطفل. الحق في البيئية التنصيص على الحقّ في الماء إيجابي لكن لابدّ من إضافة "ذا نوعية تؤمن السلامة الصحية". وفيما يخصّ الحقّ في البيئة السليمة يجب اجتناب بعض الالتباس حيث لا معنى لبيئة متوازنة بل لمنظومة تحافظ على التوازنات البيئية لأن التوازن الكلي المطلوب هو بين الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وهذا المعنى الحقيقي المعتمد دوليا للتنمية المستديمة؛ حيث هي التنمية التي تحقق بصفة متوازنة النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والمحافظة على البيئة وبالتالي فإن الحق في التنمية المستديمة والذي تضمنه الدولة هوالذي يلزمها بتأمين نمط تنموي مبني على تحقيق المعادلة والموازنة والتوافق بين الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حيث لا تجزئه في عمله للتنمية ولا أولية مثلا للاقتصاد (النمو الاقتصادي) على حساب العدالة الاجتماعية والسلامة البيئية؛ فالأبعاد الثلاثة متلازمة ومترابطة ومتكاملة وطالما نفصل الأبعاد على بعضها ولا نقرّ بشمولية مفهوم التنمية المستديمة فنكون مخطئين إزاء الأجيال الحالية المهمشة والمحرومة من فوائد النمو الاقتصادي الحاصل وذلك لغياب تقاسمها المنصف ولانعدام العدالة الاجتماعية وكذلك بالنسبة للأجيال القادمة التي ستحرم من التمتع ببيئة سليمة والتصرف في موارد طبيعية لم يقع إتلافها جراء نمو اقتصادي لا يراعى التأثيرات البيئية السلبية من الأمد المتوسط والبعيد. مقترح لكل فرد الحق في بيئة سليمة بما فيها النفاذ إلى المعلومات والمشاركة في أخذ القرارات ذات الصلة كما أنه من واجب الجميع المساهمة في المحافظة على البيئة. كما تلتزم الدولة بحماية الثروات الطبيعية بما فيها المائية والعمل على ترشيد استغلالها بصفة منصفة للأجيال الحالية والقادمة. تضمن الدولة الحق في التنمية المستديمة التي تؤمن التوازن الضروري بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحماية البيئية وتلتزم الدولة بوضع نمط تنموي يحقق هذا التوازن. ختاما: هناك حق لم يقع الإشارة إليه إلا بصفة جدّ وجيزة في المبادئ العامة ومن الضروري إدراجه في صلب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وهو الحق في مستوى عيش كريم. يشمل الحق تغذية كافية وسليمة (الكم والنوعية) ومسكن لائق (الماء الصالح للشراب، ووسائل تطهيرمناسبة) وكذلك الحق في تحسين مطرد للظروف المعيشية للجميع. وهذا الحق يلزم الدولة ببذل كل ما بوسعها من أجل القضاء على الفقر وسوء التغذية والسكن غيراللائق. فلا كرامة بدون التنصيص على هذا الحق الأساسي الذي طالبت به الثورة .● رئيس جمعية البحوث حول الديمقراطية والتنمية