◄ غياب مؤسسات دستورية في المشهد العام، ووجودها-قبل اجراء اية انتخابات- ضروري من أجل ضمان أكبر قدر ممكن من معايير الشفافية والنزاهة أيا كان موعد الإعلان عن الحكومة الجديدة، فلن يغير ذلك من واقع المشهد السياسي والاقتصادي والتنموي الشيء الكثير، على اعتبار أن مهمة الحكومة الجديدة ستكون محددة مبدئيا ونظريا بفترة قصيرة لا تتجاوز ال8 أشهر قبل تنظيم انتخابات عامة تشريعية ورئاسية.. لكن الكلام سهل والتقدير يشوبه دائما الخطأ والصواب، والسياسيون اليوم في تونس خاصة من يوجدون فى سدة الحكم أخطؤوا دائما في تقديراتهم، ولعل تقدير موعد الانتخابات التي طال انتظارها احسن مثال على ذلك، فمنذ عدة أشهر ونحن نسمع أكثر من تاريخ تقديري، فكان موعد 20 مارس، ثم صحّح لتاريخ 20 جوان، قبل أن يحدد تاريخ أكتوبر المقبل، وربما إلى ما بعد ذلك بكثير... لكن المهم في الأمر ليس في تحديد موعد الانتخابات في حد ذاته، بل في مدى توفر الظروف الملائمة لإجراء انتخابات تخضع لمعايير الشفافية والمصداقية والحيادية وتمتثل لشروط قانونية وأمنية وسياسية. أي بمعنى اوضح لا يمكن الحديث عن موعد نهائي للانتخابات يطمئن الراي العام الوطني والعائلة السياسية المحلية، قبل طمأنة المجتمع الدولي وشركاء تونس خاصة الاقتصاديين والمستثمرين الأجانب، إلا بعد استكمال تركيز الهيئة المستقلة العليا للانتخابات رسميا التي ستواصل مهام الهيئة الحالية التي ما يزال قانونيا يترأسها السيد كمال الجندوبي، ثم اصدار مجلة الانتخابات التي ستحدد طريقة الاقتراع وشروطها، وأخيرا توافق المجلس الوطني التأسيسي على النظام السياسي الذي ستسير عليه البلاد خلال السنوات المقبلة. لكن قبل الخوض في مدى توفر الشروط المذكورة، تجدر الإشارة إلى أنه حتى لو توفرت جميعها، لن يكون بمقدور اي سلطة تنظيم انتخابات حرة ونزيهة دون توفر أهم عنصرين موضوعيين متلازمين نفتقدهما بشدة هذه الأيام وهما عنصرا الاستقرار الأمني والسياسي. قليل من كان يعتقد -وما يزال- ان خيار الذهاب إلى انتخاب مجلس وطني تأسيسي تكون مهمته الأولى والأساسية صياغة دستور جديد للبلاد كان الطريق الخطأ، واليوم بدا واضحا أن معظم آراء السياسيين ومنهم من ينتمي إلى ما كان يسمى ب"الترويكا" الحاكمة هم على قناعة أن خيار المجلس التأسيسي كان شرا لا بد منه، فبقدر ما كان الحل السياسي الأمثل والمثالي وهو الذي كان استجابة لأحد أهم مطالب الحراك الثوري في القصبة 1 والقصبة 2، بقدر ما ورط الكثيرين، وكشف عورة بعض اللاهثين وراء السلطة أو الحكم او المناصب، والمقدمين لمصالح أحزابهم دون مصالح الشأن العام،.. غياب التوافق ويرى مراقبون أن تأخر المجلس أكثر من اللازم في القيام بمهمته كان لأسباب موضوعية عديدة..ناجمة أساسا عن تداخل بين مهامه الأصلية ومهامه الفرعية، بين سلطته الأساسية والأصلية وبين سلطة الحكومة المنبثقة عنه..وكان يمكن ان تتكرر لو اعيدت انتخابات 23 اكتوبر من جديد. فليس لأن غالبية النواب يتبعون حزبا معينا تعطلت صياغة الدستور، بل لغياب أو ربما اهمال اهم شرط من شروط صياغة دستور وهو التوافق على ما يجمع نواب الشعب بمختلف انتماءاتهم الفكرية والعقائدية والسياسية من هم في الحكم او في المعارضة، وهذا التوافق مطلوب الآن وبأكثر الحاح خاصة على عدد غير قليل من المسائل الخلافية الجوهرية على غرار طبيعة نظام الحكم المقبل في تونس، أو صلاحيات بعض الهيئات الدستورية، او في بعض الصيغ المبهمة التي قد تخضع الى تأويل او توليد او اجتهاد وقد تكون أصل المشكل فيما بعد وليس الحل. فالتوافق طريق الخلاص بالنسبة لجميع الفاعلين في المشهد السياسي اليوم، حتى يتم الإسراع في كتابة دستور جامع لكل التونسيين ويعبر بحق عن طموح الشعب التونسي للحرية والانعتاق والتخلص للأبد من حكم الدكتاتوريات والاسبتداد السياسي والقمع الفكري، والتنمية الظالمة المغشوشة غير العادلة. فمنطق الأشياء هو التخلص من رواسب الماضي بكل سيئاته لا اعادة احيائه من جديد في شكل وثوب جديدين..ومن ثمة ستكون الطريق إلى الانتخابات يسيرة واضحة المعالم يسير فيها الجميع على قدر واحد من المساواة والمسؤولية السياسية. أذكر أننا كنا قد نشرنا قبل شهرين وتحديدا بتاريخ 18 ديسمبر الماضي مقالا تحدثنا فيه عن صعوبة اجراء انتخابات في جوان 2013، وفعلا لامسنا الصواب، وها أن جميع المعطيات تؤكد ذلك اليوم، بل أن الوضع السياسي والأمني ازداد تأزما خاصة بعد جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد، وتداعياتها الأمنية والسياسية، وفشل حكومة حمادي الجبالي التي قدمت استقالتها الأسبوع الماضي، وفشل الفرقاء السياسيين في ايجاد مخرج لتحوير وزاري طالت حلقاته أكثر من المسلسلات المكسيكية والتركية.. وها أن نفس العناصر التي تعيق التوصل إلى حل سياسي ما تزال هي نفسها، وتقف حجر عثرة أمام تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة، وتزيد في ضبابية المشهد السياسي الذي يلفه الغموض والحيرة. المتأمل في المشهد السياسي اليوم الذي تتنازعه عديد التجاذبات، يدرك جيدا ان الحديث عن موعد للانتخابات غير منطقي.. بل أن موعد أكتوبر2013، قد يكون بعيد المنال في صورة تواصل التجاذبات السياسية التي نشهدها اليوم. فهل يمكن اجراء انتخابات دون معرفة طبيعة النظام السياسي؟ وهل يمكن اجراء انتخابات دون دستور خضع لجميع مراحل المصادقة والنقاش، وهل يمكن اجراء انتخابات دون استقرار أمني واقتصادي فعلي؟ خطوة ايجابية لكنها غير كافية مصادقة المجلس الوطني التأسيسي مؤخرا على القانون الأساسي لإحداث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات -بعد مخاض عسير ومناقشات صعبة- اعتبرها البعض خطوة ثمينة قد تساعد على وضع قطار التمهيد لتنظيم الانتخابات على السكة، ولبنة اولى من لبنات تنفيذ خارطة الطريق لإنهاء مسار الفترة الانتقالية.. كما يعتبر اصدار شروط الترشح لهيئة الانتخابات في الرائد الرسمي خطوة مهمة ثانية في الاتجاه الصحيح.. ولا يختلف اثنان في ان الخطوتين تحققتا بوتيرة حلزونية لكنهما لا تحجبان معوقات أخرى لا تقل أهمية وتحتاج بدورها إلى وقت وجهد وسعة بال ومناقشات طويلة، فضلا عن أن انتصاب الهيئة المستقلة للانتخابات في حد ذاته لا يكفي، إذ تحتاج إلى وسائل عمل قانونية ملحة لعل أبرزها استكمال المصادقة على الدستور الجديد، والقانون الانتخابي. كثير من الوقت ينبغي توقعه، وحد اقصى من التوافق السياسي والاستقرار الأمني، مطلوب حتى يمكن أن نتحدث عن بداية العد التنازلي لأي استحقاق انتخابي محتمل. فلإرساء شروط نجاح ذلك المسار يحتاج الأمر فعلا وبشهادة عديد الملاحظين والمراقبين وأصحاب الخبرة إلى الحسم في عدة ملفات وقضايا مرتبطة ببعضها البعض.. معضلة الفصل 6 ما يزال ينتظر المجلس الحسم في موضوع تركيبة الهيئة المستقلة للانتخابات الذي يحتاج إلى وقت للانتهاء منه، ولن يكون ذلك إلا بعد الانتهاء من عملية انتخاب اعضاء الهيئة المركزية المكونة من11 عضوا وفقا للفصل6 من قانون الهيئة المثير للجدل والذي يعطي للمجلس التأسيسي وتحديدا للكتل واستنادا إلى التمثيلية النسبية صلاحيات انتخاب او اختيار المترشحين إلى عضوية الهيئة.. والمتأمل في مضمون الفصل 6، يدرك أن الحسم في تركيبة الهيئة ليس بالأمر الهين بل أمر معقد جدا وقد يحتاج في النهاية إلى وفاق بين الكتل في صورة العجز عن توفر شرط الثلثين في اختيار المرشحين، وبالتالي يلزمنا أيام وربما اسابيع حتى يتعرف الراي العام التونسي على رئيس الهيئة واعضائها..في انتظار النسخة النهائة للدستور.. من المفيد الإشارة إلى أن النسخة الثانية من مسودة الدستور والتي كانت محور نقاشات وجلسات عامة مطولة ستخضع بدورها إلى بعض التعدلات، كما ضبط مكتب المجلس رزنامة جديدة سيم على ضوئها الالتزام بتقديم مشروع دستور نهائي في غضون اسابيع قليلة على أن يتم في صورة استكمال المصادقة على الدستور دون المرور على الاستفتاء اجراء انتخابات في اكتوبر أو نوفمبر المقبلين.. في انتظار ذلك ما تزال لجنة السلطتين التشريعية والتنفيذية والعلاقة بينهما بعض الجلسات لتقرب وجهات النظر بشان الفصول الخلافية بخصوص النظام السياسي والصلاحيات الموكولة إلى رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية. سيناريو الاستفتاء.. كما ان سيناريو عدم التوصل إلى وفاق بشأن مشروع الدستور برمته أمر محتمل، في صورة فشل المصادقة النهائية التي تتطلب أغلبية الثلثين. وبالتالي فإن اللجوء إلى الاستفتاء يظل أمرا ممكنا ويجب أن يكون من ضمن السيناروهات المطروحة ليس فقط أمام نواب المجلس، ولكن أيضا أمام الهيئة المستقلة للانتخابات. فإذا فشل المجلس في التوافق على مشروع الدستور واختار اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي، فستختلط حتما جميع الأوراق، وسنخسر مزيدا من الوقت، وعوضا أن نشهد حملات انتخابية للرئاسية أو التشريعية، ستضطر الأحزاب والجبهات السياسية إلى خوض حملات دعائية برفض الدستور أو قبوله.. وستعمل الهيئة الجديدة للانتخابات على اعداد رزنامة تخضع لمنطق الاستفتاء وليس الانتخابات.. مع ما يعنيه ذلك من امكانية رفض مشروع الدستور. لنعود إلى نقطة البداية. اضف إلى ذلك، تواصل مخاطر غياب مؤسسات دستورية في المشهد العام، ووجودها-قبل اجراء اي انتخابات- ضروري من أجل ضمان أكبر قدر ممكن من معايير الشفافية والنزاهة. فلا يمكن تصور انتخابات دون هيئة مستقلة للإعلام السمعي البصري، حتى نضمن اعلاما محايدا منظما ومقننا، وعلى مسافة واحدة من جميع الأحزاب خلال فترة الحملات الانتخابية، والتقليل من حجم التجاوزات والخروقات الإعلامية. كما لا يمكن تصور انتخابات حرة ونزيهة دون قضاء مستقل محايد، .. ولا يمكن تصور انتخابات حرة دون ضمان حد أدنى من الاستقرار الأمني والسياسي وهو ما يستدعي معالجة جميع بؤر التوتر والاحتقان الاجتماعي، وخاصة ضبط الحدود وتأمينها من الخروقات والتهديدات الارهابية، وتطويق ظاهرة العنف السياسي التي باتت تهدد مسار الفترة الانتقالية بكل جدية.