» - ما بال الزمان يضنّ علينا بأناس ينبّهون النّاس ويرفعون الالتباس، ويفكّرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكّون حتّى ينالوا ما يقصدون». هكذا قال أحد رواد الحركة الإصلاحيّة العربيّة المفكرعبد الرحمان الكواكبي. ولعلّه من نافل القول التأكيد على أن ثمة مسوغات واعتبارات معرفية عديدة على مستوى أوضاع وقيادات الوطن العربي، جعلت "الكواكبي" يستهدف من وراء هذه المقولة النخب الفاعلة إن في الثقافة والفكرأو في السياسة والاقتصاد، رغم انتشارالكمّامات التي كانت تكبّل الأفواه وكثرة القيود التي كانت تسلّط على العقول وتطوّق المفكرين من كلّ حدب وصوب. أمّا النخب الفاعلة ثقافيا فلا نقصد بها -بداهة- تلك التي تنخرط في قلب الحقائق وتزييف الواقع والوقائع، خدمة للسلطة القائمة وتبريرا لأفعالها غيرالمدروسة؛ لأنّ معاذيرهم لتعاطي هذا التمشّي ليست سوى معاذيرالعجزة والمخفقين الذين ينتهجون مسارا مضادا لمسارالتاريخ وإرادة الشعوب ؟ ومطابقا لما قاله رئيس الحكومة التونسية المستقيل السيد حمّادي الجبالي من أنّ "نكبتنا في نخبتنا"، بل نقصد تلك التي لا تنتج إبداعا ثقافيا أو فكريّا فحسب، بل تنخرط كذلك -وهوالأهم- في دورريادي صلب مجتمعها ، بوصفها قادرة على الإسهام في حلّ قضايا الوطن وصياغة أوضاعه من جديد. حيث إنّها، إمّا أن تشعل جذوة الاعتراض على مشروع ما أوهي قد تنقده أو لعلّها تقترح مشروعا آخر؛ بما يعني بالضرورة الالتصاق بمشاغل الوطن وهموم الطبقات الكادحة والمسحوقة والمقهورة والمنكوبة بحكّامها الأبالسة، التي يسمّيها طه حسين "المعذّبون في الأرض". فالنخبة المثقّفة بهذا المعنى، تقترب من المفهوم "الغرامشي" للمثقف العضوي من أمثال الفيلسوف"جان بول سارتر" الذي يعرّف المثقّف بأنّه « ذلك الذي يدسّ أنفه في ما لا يعنيه» وليون تروتسكي، ذلك المنظّرالشيوعي والمناضل الماركسي العنيد، مؤسس الجيش الأحمر، والدّاعي إلى إشعال ثورات متتالية في بلدان مختلفة حتّى بلوغ الثورة العالميّة. وهوما يجترح وفق نظريّة "الثورة الدائمة" التي أسّس لها في مقالة له بعنوان" نتائج وتوقّعات". وأمّا النخب الفاعلة سياسيّا، فنقصد بها الناشطين السياسيين، معارضين وحكّاما. إلّا أنّني سأفرد الحديث وأقتصره، في هذه العجالة، عن الحكّام والحكومات فقط. وفي هذا السياق فقد ورد في التنزيل العزيز: «واجْعَلْ لي وَزيراً من أهلي»ومعلوم أنّ الوزيرفي اللغة اشتقاقه من الوَزَرِ والوَزَرُ لغة مشتق من الأزروهوالمعونة على تحمّل الثقل وهوكذلك الملجأ فهوالجبل الذي يعتصم به ليُنْجى من الهلاك. أمّا الوَزِيرفي السياسة فهومن يُلْتَجَأُ إليه ويستشارويعتمد على رأْيه في تسييرقطاع معيّن. ولعلّ مدلول هذه التعريفات مجتمعة يفيدنا بالقطع أنّ الوزيرأوالحكومة بمعنى أشمل هي من يحمل الوزرعن الشعب في سعيها لخدمته وتلبية حاجياته الملحّة والارتقاء به نحوالأفضل لضمان العيش الكريم له حاضرا ومستقبلا، بالإنصات إلى مشاغله ومشاكله وبإضفاء قيم العدالة والرفاهية للمجتمع. وذلك باعتماد وضع استراتيجيات عمل في جميع الميادين الحيويّة ، سياسة واقتصادا واجتماعا وقضاء وتربية وثقافة ونحوها أملا في الالتحاق بركب الشعوب التي حقّقت منعطفا تاريخيّا في تقدمّها في مختلف مجالات الحياة وعلى جميع الصعد. ولكن السؤال المشروع الذي يتبادر، في هذا الصدد، إلى ذهن كلّ عربي هو ما إذا كانت حكوماتنا العربيّة المتعاقبة بعد استقلال أوطانها قد ترجمت فعلا عن المعاني الواردة في التعريفات المذكورة أعلاه، فشدّت أزر الشعب وأعانته وحملت عنه ثقل معاناة وضنك حياته اليوميّة البائسة في مجملها؟! أم أنّها فاقمت بؤسه وشقاءه وبلغت بهما حدودا لا تطاق؟. الجواب الطبيعي –وعلى كلّ الألسن- قطعا إنّما هوالنفي . حتّى إن المواطن العادي أصبح يلعن ليلا نهارا حمق السياسة والسياسيين، بل وحمق النّاس أجمعين الذين أتوا بهم إلى الحكم، ولو كان ذلك عبرصناديق الانتخابات، المزوّرة عموما. فالمواطن العادي لا يهمّه عند تدهورمقدرته الشرائيّة وتفاقم ديونه واشتداد مأساته وقلقه الوجودي، إن كان نظام حكم بلاده برلمانيا أورئاسيّا، أوأنّ حكومة بلاده ائتلافية أم حكومة وحدة وطنيّة أو حكومة إنقاذ وطني أو حكومة محاصصة حزبيّة أوهي حكومة الحزب الواحد الذي يرأسه "القائد الفذّ" و"الزعيم الأوحد" أو" البطل الرمز". ما يهمّ المواطن، حصرا هوما يلحقه من هذه الحكومة أوتلك من توفيرمقوّمات العيش الكريم وضمان التمتّع بالحقوق والحريّات الأساسيّة -التي لم تعد اليوم من قبيل الترف الفكري-، في مناخ ديمقراطي يحترم ويكرّس القيم الكونيّة فيما يسمّى دولة القانون والمؤسسات التي يتشدّق بلهجها حكّامنا في غير وعي بها و دون الاقتراب منها أو مجرّد السعي لتحقيقها أو حتّى طرحها بجديّة ، بل أنّ القول بها إنّما هوببساطة لمجرّد التسويق والدعاية السياسيّة والاستهلاك المحلّي لا غير. لقد هبّت رياح التغييرعلى دول عربيّة عديدة، عانت الفساد والاستبداد بما تنوء بحمله الجبال الراسيات . حيث ساد الكبت والقهروالظلم والتعذيب وتكميم الأفواه، واستخدام العصا الغليظة -دون جزرة- في مواجهة وتدجين كل القوى الوطنيّة والفعاليات الاجتماعية والسياسية ومؤسسات المجتمع المدني التي تحمل رؤية مغايرة لرؤية وتصوّر النظام القائم؛ فحدثت في بعضها ثورات سلميّة شعبيّة مجيدة وفي بعضها الآخرثورات بدأت سلميّة وانتهت مسلّحة أسالت دماء زكيّة كثيرة، وأثخنت جراحا غائرة يعسراليوم التحامها، في مشهد بائس ومقرف، يدعو للغثيان والبكاء على الأمّة العربيّة، تكرّرفي كلّ من ليبيا وسوريا الموسومتين على وجه الخطإ، بالأنظمة الثوريّة والممانعة، إضافة إلى دكتاتوريّة وطغيان حكّامهما. وكانت تونس قد استهلّت هذا التوهّج والمدّ الثوري فيما يعرف اليوم بثورات الربيع العربي؛ فهي موقدة الثورة ومفجّرة التغييرعلى السّاحة العربيّة، التي أفرزت حتّى الآن بداية تشكّل نظامي حكم ديمقراطيين، أخذ في تونس شكل النظام المجلسي الشبيه بالنظام البرلماني فيما أخذ في مصرشكل النظام الرئاسي. ورغم أنّ النظام المصري اكتوى طويلا بنارالنظام الرئاسي المطلق الذي ترجّح فيه كفّة رئيس الدولة في ميزان السلطات ، فقد أعاد إنتاجه دون استخلاص الدروس والعبرمن تجربته المرّة السابقة مع النظام الرئاسي على مدى ستّة عقود من الزمن، بدءا من عبد الناصرالذي ناصرالفقراء في بداية عهده وانتصرإلى القوميّة العربيّة ثم انتهى إلى هزيمة شنعاء لاستبداده بالرأي وتغوّله على معارضيه، مرورا بالسادات الذي انقلب على الإخوان كما عبد الناصروارتمى في أحضان امريكا وارتهن لها كلّية وخان القضيّة الفلسطينية بشطحات سياسية فرديّة شرذمت الموقف العربي، وبلوغا إلى مبارك الذي كانت سياسته استمرارا لسابقيه مع الإيغال في الفساد حدّ النخاع، علاوة على محاولة توريث الحكم لأحد أبنائه الضالعين في الفساد، بما أدّى إلى كسرحاجز الخوف لدى المواطنين فثاروا عليه وألقوا به في مزبلة التاريخ، متّبعين في ذلك النهج الذي أرسته الثورة التونسية غيرالمؤدلجة وغير المؤطرة. لا شكّ أنّ اختيارمصر لنظام رئاسي، يستأثر فيه رئيس الدولة بالعديد من السلطات والصلاحيات أدّى إلى تجميع كل السلطات تقريبا بيد الرئيس مرسي الذي تصرّف وفق ذلك كأحد الفراعنة الجدد رغم العباءة الدينية التي يلتحفها وهوما أغضب الشارع من جديد، ليعود حرق المقرّات السياديّة ويعاود القمع التكشيرعن أنيابه ، ويعود التوتّر الاجتماعي الشعبي بالاحتجاجات والاضطرابات التي لا تنتهي إلّا لتعود من جديد ؛ وكان من تداعياتها أنّ أهتزّ الاقتصاد وتدهورت أوضاع المواطن المصري بما يوحي بإمكان قيام ثورة ثانية بعد أن دخلت ثورة 25 ينايرفي حالة غيبوبة ودلفوا بها إلى غرفة الإنعاش، إمّا للاستقواء واسترجاع عافيتها بتصحيح المسارالديمقراطي الخاطئ الذي سلكته أو لعلّها تحال، باستعارة المصطلح الإداري، على التقاعد المبكّرالوجوبي. أمّا تونس فقد سلكت مسارا آخريقوم على التأسيس عبر مجلس تاسيسي أفرزحكومة على طريقة النظام البرلماني غيرأنّ المجلس التأسيسي ماطل وتأخّركثيرا في الانتهاء من صياغة الدستورالجديد الذي هو مبرّر وجوده الوحيد. وكان من تداعيات ذلك بعثرة أوراق الحكومة التي لم يعد بإمكانها تحديد رزنامة للمواعيد والاستحقاقات السياسية الهامّة القادمة. ممّا حجب عنها الرؤية السياسية الواضحة وضيّع عنها فرص استثمار داخليّة وخارجيّة، ساهمت في تفاقم البطالة وتعالي أصوات المعارضة، بما زاد في وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية وأهمّها الإضراب العام، فنتج عن ذلك تدهوراقتصادي سريع لمسته كافة شرائح المجتمع ، وخاصة منها الطبقات الضعيفة وانفلات أمني خطير أدّى إلى اغتيال الزعيم اليساري البارزالشهيد شكري بلعيد. يضاف إلى ذلك عدم توفّق رئيس الحكومة إلى تحويروزاري على مدى شهور عديدة نتيجة لتباعد وجهات نظرالأحزاب الحليفة والمعارضة لحكومته على حدّ سواء؛ ممّا اضطرّه بعد حادثة الاغتيال إلى الإعلان عن عزمه على تشكيل حكومة تكنوقراط، لم تحصل على سند سياسي من حزبه، المتطاحنة قواعده بين صقوروحمائم، ومن بعض أحزاب المعارضة، لعدم تغليبها للمصلحة الوطنيّة على الحسابات الضيّقة للأحزاب ، فاضطرّ للاستقالة عندما وجد نفسه في نفق مظلم بلا نهاية. ما يمكن استنتاجه من تجربتي الحكم في، تونس ومصرما بعد الثورة، هو أنّ العرب لا يجيدون التعامل مع نظامي الحكم الرئاسي والبرلماني بجدّية؛ فقد أثبتوا دوما فشلهم الذريع في التوفيق في إرساء الديمقراطية عبرالنظامين. فالنظام الرئاسي يفضي عندهم بالضرورة إلى صناعة دكتاتور. وأمّا النظام البرلماني فإنّه يفضي عند العرب إلى صناعة الأزمات المفتعلة للإسقاط السريع للحكومة القائمة. ذلك أنّ ثقافتنا عبرالتاريخ - لو نبشنا في تلافيف الذاكرة الجمعيّة- إنّما هي ثقافة استبداد، لا تراعي المصلحة العامة للوطن. إنّها ثقافة "شمشوم العرب" التي تمثّلها مقولته الشهيرة "عليّ وعلى أعدائي"، وليست ثقافة الديمقراطيّة، واحترام حقوق الإنسان، واعتماد الحواروالتوافق على المشترك. وهي بالتأكيد، العناوين البارزة اليوم زمن الثورات العربية التي إمّا أن تصحّح مساراتها لتنجح أوأنّها ستؤول حتما، وغيرمأسوف عليها، إلى الاندثار بسرعة السقوط الحرّ، بتعبير الفيزياء. ● مهندس