: سامي بن عامر - ان العمل الفني هو ذلك الغريب الذي يشغلنا ويدفعنا إلى الحيرة جرّاء اختلافه. كما هو التعبير عن مثل أعلى ذاتي، ووعد لحرية الفرد وبصمة لإنسانيته. وهو بذلك يمثل احد المكونات الثقافية المغذية للهوية وعاملا أساسيا لإرساء الحوار الكوني. هو كذلك وزيادة لأنه إنتاج مادي وملموس، قابل للمبادلة في السوق. نعني بذلك سوق الأعمال الفنية. إن هذه العلاقة فن/ اقتصاد موجودة منذ الأبد، وتأكيدا لذلك تقول العالمة الاجتماعية الفرنسية ريموند مولان: "ليس ثمة فن بدون مقابل. ولكن ما الجديد اليوم؟ عن هذا التساؤل يجيب "تايادور ادورنو" قائلا: "الجديد هو أن الفن ليس فقط بضاعة ولكنه اليوم أصبح يتقمص عمدا صفته تلك إنّ مجتمعنا في الظروف الرّاهنة من حيث انه يميل إلى إعطاء الأولويّة للقيم المالية للعمل الفني، قد يتناسى كل ما هو حيوي وأساسي فيه: وعد لحرية الفرد ورافد طليعي للثقافة ولإرساء الحوار العالمي. وسوف نحاول إلقاء السؤال حول هذه المسألة من خلال تركيزنا على موضوع السوق الدولية للأعمال الفنية في سياق العولمة الراهنة والمتصفة بالظاهرة الاقتصادية التي أفضت إلى زوال الحدود الاقتصادية والى التنقل الحر للأموال وكذا الأشخاص وما يملكونه، والتي برزت اثر انهيار جدار برلين وتطورت تحت رقابة الولاياتالمتحدة خصوصا، وبعض الدول الأخرى الأكثر ثراء في العالم. ودعنا نتساءل حول الإشكاليات التالية: - التنويع الثقافي، التهجين الثقافي، النسبية الفنية، مفاهيم أصبحت اليوم من قبيل الموضة وتستقطب اهتمام العدد الوافر من التظاهرات الفنية في العالم الغربي– فهل يعكس هذا الاهتمام فعلا إستراتيجية ثقافية دولية من شأنها إزالة الحدود إزاء الأعمال الفنية الآتية من مختلف بلدان العالم، أم بالعكس، هي من قبيل الوهم؟ ألم يكتب" بيار بورديا" في هذا المضمار قائلا:"يمنح رأس المال إلاّ للذي يتمتع برأس المال(1975)". فهل أن السوق الدولية للأعمال الفنية في واقع الأمر ليست سوى حكرا على البلدان الغنية؟ هل سيصبح الاعتراف المتعمد بالفن كبضاعة في سوق ذات صبغة احتكارية، مطيّة لتجنيسه وإخضاعه إلى سلطة ميولات المؤسسات المحتكرة لهذا السوق؟ هل سيضع هذا المسار التنوع الفني العالمي والهويات الوطنية أمام المخاطر؟ هل نستشف من كل هذا شرعية المطالبة بالدفاع عن التنوّع الفني والثقافي وديمومة البلدان؟ هل من حلول يمكن تصورها أمام هذا الرهان الجيوسياسي للثقافة؟ إطلالة سريعة على التظاهرات الفنية العالمية التي تنتظم في أوروبا والولاياتالمتحدة خلال السنوات الأخيرة تجعلنا شبه متفائلين. إذ أنها تتضمن ظاهريا مشروعا يهدف إلى تحقيق التفاعل الفني بين شعوب العالم والاعتراف بمبدأ النسبية الفنية. مثل ذلك، الجناح الذي خصصه متحف "لوفر" بفرنسا "للفنون الأولي " وكذلك البيانيلي الفرنسي الذي انتظم بمدينة "ليون" سنة 2000 تحت عنوان "تقاسم الإغْرَاِبية" أو معرض"الفن في العالم" الذي نظم سنة 2002 بباريس، أو معرض "أفريكا راميكس" والذي انتظم بمركز "بونبيدو" بباريس سنة 2005. كما أننا نجد نفس الأهداف والنوايا في بعض المعارض التي نظمت بالولاياتالمتحدة أو بسويسرا، مثل معرض "ارتفاع وانخفاض" الذي تم سنة 1990 بمتحف الفن الحديث بنيويورك، ومعرض "ما بعد البشري" بلوزان – سويسرا – سنة 1992. ومزادات للفن المعاصر التي أقامته كريستي في دبي في السنوات الاخيرة.... وغيرها من الأمثلة ويبدو أن كل هذه التظاهرات تصب في نفس الارادة فالهدف منها مراجعة نظام الحدود بين الدول وكذلك سلم الدرجات التقليدية بين أشكال التعبير الفني، وحول قرار لتهيئة الجمهور الغربي للتأقلم مع الفنانين القادمين من شتى الأصقاع والبقاع بثقافاتهم العديدة والمختلفة. لكن هل مكَن هذا الانفتاح الذي أثاره، فناني مختلف البلدان باختلاف ثقافاتهم، من المشاركة الفعلية في سوق الفن الدولية؟ وهل نحن نعيش الآن فعلا تجاوزا لمركزية الفن؟ لقد انكبّ العديد من الباحثين على المسألة المتعلّقة بالعولمة الثقافية وتداعياتها على السوق الفنية الدولية وعلى حقيقة واقع ما نسميه تبعا لذلك التهجين الفني وإزالة حدود الفن. وقد أفضت هذه البحوث في مجملها إلى نفس النتيجة: إن الشرخ الذي قسم عالم الفن الدولي بين مركز ومحيط، ما انفك يتنامى. أما النسبية الفنية والانفتاح على مختلف الثقافات العالمية الموضوعة في صدارة بعض معارض الفن المعاصر منذ سنوات عدّة، فهي في الواقع اقرب إلى الوهم. لقد أكد لنا عالم الاجتماع الفرنسي "الآن كامين" سنة 2002 قائلا: "عندما يكون محور السوق في خطر، نجد القلّة من البلدان قادرة على نيل موقع فيه" ويدلي في هذا الصدد بإحصائيات بيانية:"إن الولاياتالمتحدة وألمانيا هما الدولتان اللتان تتزعمان عامة هذه السوق، ولا تتركان إلا الجزء القليل منه للدول الموالية الأخرى". وينهي الآن كامين قائلا:"لا شك أن عالم الفن المعاصر متمركز، وذلك لانسياقه إلى القطب الثنائي المتكون من الولاياتالمتحدة وأوروبا". وحسب الآن كامين، البرهنة في هذا المجال جدّ بسيطة:" كلما كانت السوق المالية نافقة كلما انبثق آليا مركز الفن الأكثر ثراء. وفي متابعتنا للاحصائيات التي توردها مؤسسة آرت برايس خلال السنوات الاخيرة نلاحظ عموما مواصلة هيمنة هذا القطب الثنائي لكن بالتوازي مع صعود قطب ثالث تمثله الدول الآسوية بزعامة الصين. لا غلو أن استخلصنا من كل هذه الأمثلة أن سوق الفن الدولية، هو اسم بدون مسمّى. وهو لا يمثل سوى مبادلات تفاضلية بين البلدان الأكثر ثراء في العالم أو بالأحرى احتكار خصوصا كبريات المؤسسات الأمريكية وبالتحديد المؤسسات النيويوركية. هكذا أضحى جليا للعيان بان هيمنة الفن الأمريكي، ليس بحاجة للحجة المعاكسة، ودعنا نذكّر بهجمة البوب آرت الأمريكي في منتصف القرن العشرين على الواقعية الجديدة الفرنسية والتي أفضت إلى انقراضها قبل الأوان، وبمحاولات الفرنسيين الفاشلة للوقوف أمام هذه المنافسة الأمريكية علها تفرض التشخيصية الحرة في سوق الفن الدولية. يتعجب كوهان سولال من هذا الأمر قائلا:"فهل يجب القبول بان بعض البلدان أو بعض الشعوب هي أكثر موهبة من غيرها في ميدان الإبداع الفني؟ يتنزل سؤال هام في هذا السياق: إن من مخاطر هذا الانفراد بالفن التشكيلي المعاصر وبهذه المركزية الثقافية التي تدعمها المؤسسات المؤثرة في هذا المجال، كالمعارض الكبرى والأروقة والبيع بالمزاد العلني، ادعاءها باكتساب القيم الفنية العالمية المثلى. فهل تفرض إقليمية نيويورك الفنية ذائقتها، وهل تحدّد اتجاه الفن في العالم وهي التي تستند إلى لغة وسلطة عالمية؟ نستطيع القول بان عولمة الفن ترتكز حسب رايموند مولان على التمفصل والربط بين الشبكة الدولية للمؤسسات الثقافية والشبكة الدولية للأروقة. فبالاعتماد على القيم الفنية التي تفرزها المعارض الدولية والتظاهرات العالمية الكبرى وبالأساس الأمريكية، تنتقي الأروقة في أوروبا فنانيها. ويوضح الآن كأمين قائلا بان هذه التظاهرات الهامة تلعب أساسا"دور تأهيل الفنانين وتقييمهم، فهي تعاين وتفرض خياراتها، وهكذا تساهم في تجنيس الاختيارات سواء بالنسبة لأصحاب المهنة أو بالنسبة لمجمّعي الأعمال الفنية". فهل يحق لنا أن تتساءل عما يتضمنه مفهوم الطلائع الفنية التي يتم بعثها من سنة إلى أخرى من طرف هذه التظاهرات الكبرى. أليس هدفها، التزويد المتواصل لمضاربات بورصة الفن. فالتشخيص الذي كان منبوذا منذ سنوات، حقق في السنوات الاخيرة عودة واضحة. فهل سنشهد غدا عودة التجريد؟ أما الفوتوغرافيا فهي تعتبر اليوم الفن الجديد الذي يناسب عالم الاقتصاد الحديث والوسائل المتعددة الأوساط. فهل سينظر له هكذا لاحقا؟ كل طليعة في الفن تكتسح الأخرى و تلغيها. فهل يصبح الفنانون المبهورون بطلائع نيويورك والذين يتسارعون للانضمام إلى بوتقة الطليعة، مجرد مقلدين خاضعين إلى ذائقة مسقطة؟ فبالاعتماد على القيم الفنية التي تفرزها المعارض الدولية والتظاهرات العالمية الكبرى وبالأساس الأمريكيةوالغربية، تنتقي اليوم الأروقة الأوروبية فنانيها. ولعل هذه الظاهرة بدأت اليوم تتفشى في العالم العربي من خلال تكريس هذا التوجه في التظاهرات التي تنظمها بعض الأطراف الأجنبية في بعض البلدان العربية تحت راية ما سمي بالفن المعاصر. أفلم يصرح المدير الفني الايطالي الجنسية لمعرض ربيع الفنون بالعبدلية في دورته العاشرة في الكلمة الافتتاحية التي ضمنها دليل هذا المعرض، بأن هذا الأخير الذي يدخل تحت راية ما أسماه بالفن المعاصر جاء ليعلن عن انطلاقة الفن في البلاد التونسية وعن تمكين العمل الفني من أخذ مكانته التي لم يعرفها قط سابقا؟ إن مفهوم"الفن المعاصر"يفهم اليوم على كونه نمطا جماليا استمد جذوره من حركات الطلائع الغربية وخصوصا في الولاياتالمتحدةالأمريكية في منتصف القرن العشرين واكتسب شرعيته وطابعه الرسمي من المؤسسات الحكومية والتجارية. لكن هل يمكن لهذا النمط الفني الجمالي أن يحتكر صفة المعاصرة باختلاف وتغير الأزمنة والأماكن المنتمي إليها؟ أليست المعاصرة تحديدا وبداية مفهوما تاريخيا. وما هو معاصر هو الذي يتزامن مع الموضوع. بمعنى أن الفن المعاصر عموما وبالأساس هو الفن الذي ينجز اليوم نسبة لزمن المتكلم الحي؟ ألا يمثل ذلك إقصاء للفن في مفهومه الواسع كفضاء رحب للمكن؟ ألا يجرنا هذا التمشي إذا إلى طريق مسدود؟ صحيح أنه ليس ثمة فن كقيمة تخضع إلى طلب خارج إطار مجتمع ما. فهو مشترك مع نظام يعترف به ويمثله. ليس هناك فن إذا لا يدخل ضمن نظام اقتصادي وسياسي وإيديولوجي، يطلبه وينتجه. ويمكن القول أن"الفن المعاصر" انطلاقا من طابعه الرسمي المتسلط والمهيمن والمحتكر للفن وتعدديته، يعتبر انبثاقا لليبرالية شرسة تطمح اليوم إلى الكونية. إنها العولمة الثقافية. ألا يدعم هذا ما رآه "ليفي ستراس"منذ1980"، إذ يقول" أن الإنسانية تستقر اليوم في ثقافة أحادية، وهي تتهيأ لإنتاج حضارة جماعية مثل البنجر. فالأكلة اليومية ستقتصر على هذا الطبق". إن مصطلح "الفن المعاصر"الذي أصبح يمثل نظاما مغلقا وسلطة لذائقة جديدة تبحث عن الكونية، يتضمن رأيا قبليا واضحا وبعدا إيديولوجيا أصبح من الصعب الخروج عنه. إن من مخاطر هذا الانفراد بالفن التشكيلي المعاصر وبهذه المركزية الثقافية التي تدعمها آليات العالم الغربي المؤثرة في هذا المجال، كالمعارض الكبرى والأروقة والبيع بالمزاد العلني، اذا، ادعاءها باكتساب القيم الفنية العالمية المثلى. لذلك فان ميزان القوى غير المتكافئ في الحياة الفنية والثقافية في العالم، يدفع بالدول والاتحادات الدولية إلى تنظيم صفوفها للدفاع عن سياداتها وعن التنوع الثقافي وهوية البلدان. كتب كل من "كلود لالوش" و"كلود ميلار" في نوفمبر1998 ما يلي:"يتعلق الأمر بالمطالبة وبكل حرية وبكل شرعية ولفائدة العالم أجمع، بالسيادة الثقافية. لان كفاحنا في هذا السياق هو كفاح كوني. وللشعوب الأحقية في التصرف في خيالهم..". جوهر المسالة يتلخص في هذا السؤال:"هل يمكن اعتبار العمل الفني مجرد بضاعة كبقية البضاعات الأخرى؟ إن السؤال المطروح اليوم على كل دولة هو التالي: كيف يمكن مقاومة مركزية الفن وسطوة الثقافة المتجانسة للوصول إلى المساهمة في بناء فسيفساء فنية وثقافية عالمية؟ في نظرنا، يخضع نجاح كل دولة في هذا المشروع إلى عنصرين اثنين: أولا: مدى قدرتها على تحقيق مبدأ الاستثناء الثقافي او التنوع الثقافي يعني مدى حرصها على حماية إبداعات فنانيها، وطاقتها على صياغة استراتيجية نمو ثقافي قادرة على تطوير وضعية الفنان وموقعه باعتباره يؤدي مهنة فاعلة في المجال الثقافي والاقتصادي على حد السواء، وعلى تمكن هذه الدولة من إنشاء الهياكل والمؤسسات اللازمة لذلك. وان ثبتت اليوم ضرورة تدخل الدولة في المجال الفني والثقافي انطلاقا مما ذكرناه من برامج، فان الفن يبقى أيضا مسؤولية الجميع، إذ انه يهم المجتمع المدني والمؤسسات الخاصة وكل أفراد المجتمع. ثانيا:مدى دينامية دبلوماسيتها. فالدبلوماسية الناجحة أمام تحديات هذه السياسات الجغرافية الثقافية هي التي تتمكن بمعية المجتمع المدني وكل الأطراف، من نشر فنونها وثقافتها ومن إرساء تبادل وتعاون مكثف مع بقية دول العالم. تعاون قائم على الاحترام والتسامح والصداقة والاعتراف المتبادل. ولنا في هذا المجال مثال الدول الآسيوية التي استطاعت خلال السنوات القليلة الاخيرة ان تحتل مرتبة مشرفة في السوق الفنية العالمية بفضل ما رسمته من برامج وأهداف سعت الى تحقيقها. إن تحقيق هذه البرامج، من شأنه أن يساهم في التعريف بفنون الشعوب المتنوعة وبثقافاتها المختلفة، وفرض سوق فنية عالمية متكافئة، يسترجع الفن فيها قيمته الثقافية الأساسية، كعنوان لحرية الفرد ولإنسانيته وكأحد المكونات الثقافية المغذية للهوية والضامنة لسيادة وبقاء الشعوب وإثبات هويتها واختلافها وعامل أساسي لتفعيل الحوار الكوني.. أستاذ تعليم عال بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس
ملاحظة: افتتح الأستاذ سامي بن عامر بها يوم 10 فيفري 2013 بالشارقة، ندوة اقيمت في اطار الاحتفال بجائزة الشارقة للبحث النقدي بمحاضرة حول السوق الدولية للفن ويتكون هذا المقال من أجزاء طويلة من هذه المحاضرة.