قد لا يختلف اثنان بشأن ما قدّمه التونسيون عموما، وبكل تلقائية للشعب الليبي خلال الأشهر الطويلة التي سبقت سقوط نظام القذافي قبل سنتين، عندما فتح التونسيون بفقرائهم وأغنيائهم بيوتهم لاستقبال عشرات الآلاف من اللاجئين الليبيين، حتى بلغ الفاريين من عصابات القذافي ونيران أسلحتهم المدمرة المليون ونصف... يومها لم يفكر التونسي إلا في إغاثة جار جارت عليه الدوائر وبات مشردا بسبب جور وظلم حاكمه، فقدم مقبلا غير مدبر ما تمليه عليه انسانيته ودينه وأخلاقه واقتسم بيته ورغيفه مع العائلات الليبية في انتظار الفرج... بقية الحكاية تكاد تكون معروفة. فبعد مقتل القذافي وهروب من هرب من أبنائه وأسر من أسر من افراد أسرته، ومع بدء عودة الليبيين الى بلدهم لاعادة اعمار ما تهدم وإصلاح ما فسد، وبدل أن تكون العلاقات بين تونس وليبيا بحكم العلاقات الجغرافية والتاريخية بين البلدين من أوكد الأولويات المطروحة في مرحلة الانتقال الديموقراطي، وبدل أن يكون للنخب والإطارات التونسية في مختلف اختصاصاتهم، المطلوبة في بلد بلا مؤسسات، موقعها ودورها في مساعدة الاشقاء الليبيين، نسجل وللأسف انسحابا وغيابا يكاد يكون كاملا لمثل هذا الدور. وهذا ليس سوى مثالا من أمثلة كثيرة على التعثر والغياب، بل والفشل الملازم للديبلوماسية التونسية طوال الاشهر الماضية خلال التجربة التي يصر وزير الخارجية المقال رفيق عبد السلام على وصفها ب»أقوى حكومة في تاريخ تونس». فزائر ليبيا اليوم سيصدم لغياب التونسي وحضور مختلف الجنسيات الأخرى، من تركيا وإيطاليا وفرنسا وأمريكا واليابان، في السوق الليبية بدءا من المطاعم ومحلات الاكلات السريعة المنتشرة في كل مكان، وصولا الى مشاريع إعادة الاعمار والبناء في بلد اعتبر أهله من التونسيين كما لم يحدث أبدا من قبل خلال محنته ومعركته ضد الاستبداد، قبل أن تتباعد الشقة بعد ذلك بسبب تراكم الأخطاء وسوء التقدير والحساب.. والواقع أنه وبعد التحوير الوزاري المعلن بعد طول محاض، وتعيين الديبلوماسي عثمان الجراندي وزيرا للخارجية فإن إحدى أوكد الأولويات التي ستكون مطروحة بعد نيل الحكومة الثقة اليوم في المجلس التأسيسي سيكون مرتبطا باستعادة تلك الصورة المشرقة التي راجت عن تونس وشعبها الثائر بعد 14 جانفي، وهو يرفع شعار الحرية والعدالة والكرامة في وجه الظلم والاستبداد والفساد، كل ذلك قبل أن يعتري تلك الصورة ما اعتراها من اهتزازات وتراجع وخيبات متتالية بسبب غياب ديبلوماسية واضحة من جهة، وتواتر التصريحات والمواقف الارتجالية التي لم تكن تخلو من نرجسية وغياب للواقعية في أحيان كثيرة، بما جعل البلاد على مشارف أزمة ديبلوماسية في أكثر من مناسبة مع دول مجاورة وأخرى تجمعها بتونس علاقات ومصالح استراتيجية عميقة... وبعيدا عن الوقوع في لعبة استعراض تلك التصريحات التي تقاسمها مرة بعد مرة كل من الرئيس المؤقت ووزير الخارجية صهر رئيس حركة النهضة لتتحول الى موضوع للتندر على المواقع الالكترونية وفي التعليقات الصحفية، فإنها كادت أن تؤدي الى أزمات ديبلوماسية مع الجزائر وأخرى مع ليبيا ودول أوروبية في مرحلة لا يمكن لتونس فيها أن تكون معزولة في محيطها الجغرافي القريب أو علاقاتها الاستراتيجية . ومن هذا المنطلق، وإذا سلمنا، وفق تصريحات رئيس الحكومة الجديد ووعوده التي سبقت الإعلان عن تشكيل حكومته بأن عمرها سوف لن يتجاوز نهاية العام، فلن يكون أمام وزير الخارجية الجديد عثمان الجراندي سوى بضعة أشهر لاعادة اصلاح صورة الديبلوماسية التونسية وإزالة ما علق بها نتيجة للارتباك والتذبذب والارتجال الحاصل في أداء من سبقه وتداعيات مختلف الفضائح التي هبت عليها قبل حتى فضيحة «شيراتون غيت» و»فنلندا غيت»، بل ونتيجة لاصرار الحزب الحاكم على الخطإ منذ البداية واندفاعه لتعيين صهر رئيس حركة النهضة على رأس الخارجية وهو خيار غير صائب وربما تكون اتضحت نتائجه للحركة لتتجنب تكراره مستقبلا وبالتالي تتجنب تحمل انعكاساته على مصداقيتها وعلى خياراتها في منع تكرار ممارسات بن علي... فهذا التعيين ما كان ينبغي له أن يتم مهما كانت مهارات وقدرات وكفاءة الوزير المعين والذي أبدى خلال الاشهر الماضية افتقارا للعقلية الديبلوماسية وبرع في التصريحات المثيرة للتهكم و السخرية. وفي كل الحالات فإن الصورة التي ارتبطت بالوزير المعين بعد الثورة كانت ستظل ملتصقة حيثما تنقل في الداخل أو الخارج بأحد رموز السلطة الجديدة في تونس وهذا وحده كان سببا كافيا لاستقراء فشل مهمة الوزير المنصب بقطع النظر عن كل الشهادات العلمية أو شهادات الرضا والاستحسان التي كان سيحصل عليها من الحركة أو من كل مؤسسات البحث القطرية التي انتمى اليها في السابق... وبالعودة الى الوزير الجديد المكلف على رأس الديبلوماسية التونسية، فإن الأرجح أن المهمة لن تكون هينة والطريق لن تكون سالكة، فخبرة الرجل وهو الإعلامي التكوين، الديبلوماسي النشأة، الذي قضى نحو ثلاثة عقود في الحقل الديبلوماسي متنقلا بين عديد العواصم العربية والافريقية والآسيوية قبل أن يمثل تونس في الأممالمتحدة الى حين عودته الى البلاد قبل عام، قد يجد وبرغم الاجماع الحاصل حتى الآن في مختلف ردود الفعل على شخصه، في انتظاره الكثير من الانتقادات والاتهامات على اعتبار عمله في إطار النظام السابق، الامر الذي سيجد الرفض لدى أنصار قانون تحصين الثورة من عودة الوجوه المحسوبة على التجمع المنحل... قد يختلف مفهوم الديبلوماسية من عاصمة الى أخرى ومن ثقافة الى أخرى أيضا، ولكن الديبلوماسية في مفهومها الحديث تتلخص في مجموعة المفاهيم والقواعد والإجراءات والمراسم والمؤسسات والأعراف الدولية التي تنظم العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية والممثلين الدبلوماسيين، بهدف خدمة المصالح العليا، الأمنية والاقتصادية والسياسية، بين الدول، وهي وإن كانت من العلوم التي تدرس فإنها تبقى الى جانب كل ذلك فنا وحذقا ومهارة في تحقيق أهداف السياسة الخارجية والتأثير على الدول والجماعات الخارجية بهدف استمالتها وكسب تأييدها بوسائل شتى منها ما هو إقناعي وأخلاقي ومنها ما هو غير ذلك وفق مقتضيات الضرورة...