"..في مثل هذا اليوم وفي يوم 20 مارس 1956 على الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة أمضى السيّد الطّاهر بن عمّار بوزارة الخارجيّة مع "كريستيان بينو" (Christian Pineau) وزير الخارجيّة الفرنسي وثيقة الاستقلال بحضور كامل الوفد التونسي الّذي سرعان ما طار إلى تونس صحبة الحبيب بورقيبة للاحتفال بالحدث في حين بقي الطّاهر بن عمّار بباريس لتدبّر الأمر لمواجهة المجاعة الّتي تعصف بالوسط والجنوب..". هذه بعض التفاصيل الصغيرة الكبيرة بمعناها والغنية بعمقها الرمزي، كيف لا وهي لحظات فريدة من تاريخ تونس لا يمكن أن تمحى او تنسى هكذا بجرّة قلم، أو بمحاولة تشويه للتاريخ ولوقائعه.. أو بسبب اختلاف في قراءة التاريخ.. فاستقلال البلاد ودحر الاستعمار ورفع راية الوطن رمز السيادة الوطنية على كل شبر من تراب البلاد موعد يستذكره كل التونسيين، وهو ملك للشعب التونسي ولا يمكن ان يدّعي أحد لنفسه شرف نزع الاستقلال وبناء الدولة، فالنصر أتى من نضالات أجيال من التونسيين وبفضل دماء شهداء بررة، ومناضلين آمنوا بنبل القضية وبعدالة المهمة وقدسية الجهاد ضد الاستعمار بالفكر والكلمة والسلاح أيضا.. الطاهر بن عمار، بورقيبة، صالح بن يوسف، الثعالبي، طاهر الحداد، الطيب المهيري، فرحات حشاد، مصباح الجربوع، الخ... فلا تهم الأسماء فالعشرات منهم كتبوا التاريخ وحفروا أسماءهم من ذهب من أجل إعلاء راية الوطن ودوام عزته.. وصلاح أمره.. لحظات يوم الاستقلال ويوم تحررت تونس لا يمكن ان تمحى من ذاكرة الشعب التونسي الأبيّ الحرّ، شعب مثلما استبسل في الدفاع عن حريته من الاستعمار الفرنسي، لم يرم المنديل يوما، وظل يكافح من أجل بناء الدولة المدنية الحديثة، من اجل النهوض بتونس ورفع راية العلم والتقدم، وهو إلى اليوم ما يزال يكافح من أجل حريته وكرامته، وهو الذي -من أجل ذلك- نجح في دحر الاستبداد يوم ثار على حكم بن علي، فاستحق إجلال الشعوب له واحترام العالم. لأنه شعب لم يرضى بالدكتاتورية حكما، وبالظلم والبطش منهجا.. تحيلنا لحظة الاستقلال على لحظات حاسمة توّجت نضالات اجيال متعاقبة، وعقود من مقاومة المستعمر ورفض الهيمنة، وسعيه لطمس هوية المجتمع التونسي ومحو تاريخه والدوس على تاريخه الضارب في العمق، وعلى حضارته التي تستمد سموّها من جذور الحضارات المتعاقبة الأمازيغية والقرطاجية، وحضارتنا العربية والاسلامية التي نفاخر بها. لكن تونس اليوم باستثناء احتفال رسمي بقصر الرئاسة بقرطاج، غابت عن معظم مدنها وجهاتها وعن شوارعها وأنهجها معالم الزينة والاحتفال بهذا اليوم.. وأجزم أن الكثير منّا نسي في لحظة ما هذه الذكرى، فلم تقفز إلى ذهنه لحظة التذكر إلا حين تأكد أن اليوم هو يوم عطلة رسمية.. وقد يعجب من أمره، وقد يتساءل لماذا، وقد يمرّ مرور الكرام.. فرمزية اليوم ربما قد لا تعني الشيء الكثير لدى البعض.. احتفالنا بذكرى الاستقلال هو احتفال لرمزيته وانتصار لبعده التاريخي وللمعاني السامية للاستقلال الذي ناضلت من أجله اجيال واجيال من التونسيين ودفع من اجله الشهداء ارواحهم ودماءهم في سبيل عزة الوطن ومناعته وسيادته على أراضيه.. فليكن استحضار الذكرى دافعا قويا من أجل حب الوطن وتعميق الانتماء لهذه الحضارة وإجلالا لهذا الشعب الكريم.. بعيدا عن التجاذبات الحزبية والإيديولوجية الضيقة، وبعيدا عن الأطروحات الفكرية والسياسية.. عيد الاستقلال هو عيد كل التونسيين مهما كانت مشاربهم وانتماءاتهم الحزبية او الفكرية.. وليس حكرا على فئة معينة او على مجموعة سياسية معينة.. عاشت تونس حرّة أبيّة أبد الدهر، عاشت تونس مستقلة عصيّة على نوايا المتآمرين وحقد الظلاميين، منيعة ضدّ غلاة التطرف ونذيري العنف.. عاشت تونس فوق الجميع حامية لأبنائها وحاضنة لمستقبل أجيالها القادمين...