تحتفل بلادنا هذه الايام بالذكرى الخمسين لاعلان الجمهورية.. ولئن طغى حدث الاستقلال والاحتفال به على مرّ سنوات طوال على حدث إعلان الجمهورية وذكرى الاحتفال بها باعتباره يمثل ذكرى تخلص تونس من كلاكل الاستعمار الفرنسي الذي روت التراب دماء زكية لعشرات الآلاف من الشهداء لأجل دحره فإن إعلان الجمهورية في إعتقادي لا يقلّ قيمة عن إعلان الاستقلال بل جاء تتمة مكنّت لأول مرة ابناء هذا الوطن من أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم إثر اسقاطهم الدولة الحسينية وإلغائهم نظام البايات الذين جاؤوا بلادنا غزاة بإذن من الباب العالي أي السلطان العثماني. اذا جاء الاستقلال ليضع حدّا لقرون طويلة من الحكم الاجنبي المتتالي لبلادنا بدءا بحلول عليسة التي وان جاءت كما أوردته الاسطورة فارة من بطش شقيقها «بيغماليون» لتبني أسس الحضارة القرطاجنية فإن ذات الاسطورة لم تخف النوايا الاحتيالية والاحتلالية المقنعة لعليسة التي اشترت من السكان الأصليين للبلاد مساحة جلد ثور لتقوم بقطعه فيما بعد الى سيور كما لم تخف ذات الاسطورة سذاجة السكان الأصليين وطبعهم المسالم فقبلوا عليسة ومعها أسس اولى الحضارات الغازية لبلادنا.. وانتهاء بالاستعمارين العثماني والفرنسي. ويبدو ان الاسطورة على قدمها لم تخطىء قراءة نفسية أهل هذا البلد الذي أصبح يسمى فيما بعد تونس.. فسكانه المتغذيه سلالتهم من سلالات عدة حلّت غازية او مستوطنة او لاجئة لم يكونوا بالجبناء ولا من الذين تنقصهم النضالية او من ضمن اولئك الذين يفضلون العيش تحت سلطة الآخرين بل كانوا يقاومون الغزاة ويدحرونهم الى حين يتوفر لهم التوازن المرجوّ فيتفاعلون مع الحضارة الوافدة ويؤثرون فيها لتطويعها الى حدّ استسمح فيه البعض لنفسه بأن يسمي بلادنا ب «آكلة الحضارات» لأن شعبها يأخذ من تلك الحضارات لبّها بما تحويه من عمق وعظمة ويلفظ الباقي. وقد كتب أحد الادباء الفرنسيين الذين زاروا تونس سنة 1885 يصف التونسيين «بأنهم من أصل عربي اختلط بعنصر أجنبي، أغلب الظن بربري وربما يكون مطعّما شيئا ما «بالوندال» مضيفا ان «تاريخ تونس الطويل وحده الجدير بشرح طبيعة هؤلاء السكان» أما بيار دوماس فكتب سنة 1937 يقول ان التونسي «يبدو وكأنه جوهر الانسان في شمال افريقيا فهو أكثر تطوّرا وأكثر تعلّما، وهو أكثر قربا من حضارتنا الغربية وفي نفس الوقت يبدو أكثر رفضا لسيطرتنا مما يبيح القول ان تونس كانت ملتقى للافكار المتناقضة». كانت تلك ملامح التونسي كما صوّرها الاجانب على امتداد العصور ويمكن القول اليوم أن هذا الانسان عرف كيف ينحت لنفسه شخصية إرتوت من معين مختلف الحضارات لتنجح في اخذ زمام أمورها بيدها فيصبح الشعب التونسي صاحب السيادة التي يباشرها على ضوء ما جاء به دستور البلاد منذ غرة جوان 1959 وان ذات الانسان كسب بعد معركة التحرير معارك عدّة خاضها ضد الجهل والتخلّف والفقر والتطرّف.. وهو اليوم يحتفل بكل نخوة واعتزاز بالذكرى الخمسين لاعلان الجمهورية مختلفا تماما عن ذلك التونسي الذي أطلّ عليه مساء 25 جويلية 1957 رئيس المجلس القومي التأسيسي جلولي فارس بقرار المجلس إعلان الجمهورية.. ورغم ان حياة الشعوب لا تقاس بنصف قرن من الزمن فإن هذه المدّة على قصرها تعلّم منها الشعب التونسي الكثير وحقق فيها ما لم يحققه على امتداد القرون الماضية من نهضة وتطوّر وقد لعب ذاك المزيج الحضاري المتكوّن منه وذلك الاعتدال والتوازن دورا أساسيا في كل ذلك.. لهذا فإنه بالقدر الذي يجب فيه على التونسي ان يحافظ على النظام الجمهوري الذي هو ضمانة أساسية لاستقلال البلاد بقدر ما هو مطالب بالحفاظ على تلك الصورة التي نقلها عنه كل من زار تونس من الاجانب صورة الانسان الوسطي، المعتدل، الحازم، الكاد، الجاد المتطوّر، المتعلّم وغيرها من الصفات التي تعتبر ضامنه الوحيد للتآزر والتحابب ونبذ العنف والتطرّف وللحفاظ على ثقة الآخرين ومزيد حثهم على الانفتاح على محيطنا والاطمئنان للاستثمار فيه..